ضياع المثقف «الإسفنجة».. المشهدُ الثقافيُّ خلال أكثر من عقدٍ من سنوات الحرب.. فئةٌ سارت فوق دم الضحيّة، وأخرى صامتةٌ، وثالثة لا تملُّ القبضَ على الجمر
تشرين- علي الرّاعي:
خيبة المثقف الذي مازال، مكانه مسلوباً ومهمشاً، هي خيبة تتعاظم، بتجاهل توصيفه لما جرى في سورية خلال عقدٍ ونيّفٍ، بأنها أزمة ثقافية في أحد وجوهها، وجاءت الحرب لتُعمق الهوة بين المثقف والناس.. حتى إنها خلقت صراعاً أكبر؛ وهو المثقف في مواجهة المثقف، وتبادل التهم بين عدد من المثقفين، يعكس بشكلٍ واضح حال الثقافة والمثقفين؛ ركود، وهرولة في المكان، وأحياناً السعي وراء أدوار ومناصب فوق دم الضحية، ومن ثمّ كان أن اختفى المثقف الذي نعته (ساراماغو) يوماً في إحدى رواياته بـ «الإسفنجة» الذي فشل في امتصاص كل هذا الهلاك وإعادة صياغته بمعادلٍ إبداعي يليقُ بالحدث الجلل، ومن ثم ذهب ضالاً ومضللاً في أزقة الوصولية باحثاً عن خشبة خلاصه الفردي تحت عناوين الأنا الجمعية الكاذبة!.. لكن ليس معنى الكلام السابق إطلاق حكم، فدائماً ثمة «ناجون» مهما بدا عديدهم قليلاً، وإنما هنا نوّصف ظاهرة مازالت آثارها تتضح وتتجلى أكثر فأكثر.
صبيح: المثقف لم يكن يوماً فاعلاً في مجتمعه كما يجب إلا فيما ندر
الفاعلية الضحلة
هل الأمر لأن المثقف لم يكن يوماً فاعلاً في مجتمعه كما يجب إلا فيما ندر، – كما يرى القاص محمد ياسين صبيح – وإنما كان تابعاً للمجتمع بكل تبعياته المترهلة، بدل أن يكون محركاً وفاعلاً ومؤثراً، فلم تكن له مواقفه المختلفة بأبعادها الفلسفية والاجتماعية والسياسية التي قد تتجذرُ وتخلقُ حالةً تغييرية رائدة، تُساهمُ في فرز التقليدي والسلفي والراكد، ومحاولة تطويره ؟!
وربما من هنا كان تصالحه مع الأمر الواقع الذي أسهم في كبت الروح الإبداعية الخلاقة، تجلى الأمر بالاكتفاء بإنتاج إبداعات تبدو كبحيرة ساكنة راكدة، أو كفتاة تملؤها العفة والجلوس في البيت خوفاً عليها.. لذلك لم نر هذا التأثير المهم على الحالة الشعبية أو المواطنية المجتمعية، الأمر الذي أدى إلى إفساح المجال للثقافات السلفية والماضوية بالتموضع والانتشار.. كما رأينا في أول الأزمة حالة الانفلات والتشظي للكثير منهم نحو ” دوائر ضيقة” أحياناً، وأخرى ” أضيق” أحياناً، والابتعاد عن المصلحة المؤسساتية وعن وحدة الدولة ومنطقها، والسبب في رأي د.صبيح، في كلِّ ما تقدم هو الفراغ الثقافي بمجمل مكوناته الفلسفية والاجتماعية والسياسية والدينية الذي كان سائداً، لأنه لم يُعط للمثقف هذا الدور الذي نأمل، بل اكتفى المثقفون خلال الحرب بالاصطفافات غير الفعالة كما فعل السياسي، بخطاب ثقافي مباشر وضعيف، وكذلك الحالة الإبداعية خلال الأزمة لم تكن بالمستوى المطلوب، وأغلبها أتى بشكلٍ مباشر ومستعجل.
إبراهيم: النتيجة نحن بشرٌ معرضون لانتكاسات نفسية وأوجاع روحية
المرارة الشاملة
إذاً كانت المجتمعات – في السابق – يؤدّبها كتّابها ومثقفوها ومنظروها، وثقافة أي مجتمع هي حصيلة نتاج مفكريه وأدبائه ونخبه.. إذاً؛ نحن لم ننتج ثقافة عالية المستوى في المجتمع السوري – وهذا بكل تأكيد ينسحب على مختلف المجتمعات العربية – رغم بعض المحاولات، إذ كانت تتنازعها دائماً الأيديولوجيات القومية والدينية.. فماذا نقول مثلاً، عندما نرى «مبدعين» وهم من غلاة اليسار والمدنية يقفون في الطابور خلف الظلامية التكفيرية؟!.. للأسف الشديد كلّ ما بناه المثقفون السوريون على مدى نصف قرن، ذهب ككومة «تبن» في مهبِّ الريح أمام سطوة الحالة الغريزية التي «تُبهمن» الإنسان.
في أوقات الحروب يصبح كلُّ شيءٍ في الحياة فعلاً مقاوماً.. من هنا، فإنّ الثقافة من منظورها الشامل الواسع الذي يتعدّى النخب إلى الناس العاديين في مدننا وقرانا على امتداد ساحة الوطن، فقد كشفت التجربة للأسف، كم هي ضحلة ثقافتنا، وكم هو صعبٌ أن تجدَ مثقفين في العالم العربي والإسلامي، لا يتأثرون بطائفتهم ومذاهبهم، لأنها في الحالة هذه لن تعود ثقافة، ولن يعودوا مثقّفين..!
اليوسف: العلة في الحامل لا في المحمول على هشاشته الغالبة
هائمون على وجوههم
في ظل المحنة التي طالت على سورية؛ كان لابد سيختلف حال المثقفين عن حال المواطن العادي أو هكذا يُفترض، لأن حالة المثقفين أشد خطراً لكون المثقف بشكلٍ عام يعيش حالات نفسية وإنسانية تختلف عن غيره.. فبعض المثقفين أحجموا عن الكتابة وانغمسوا في حزنٍ ومرارات.. بعضهم الآخر حمل سلاحاً – للأسف- وترك قلمه وأوراقه ومضى إلى صفوف القتلة والإرهابيين.. وقسمٌ ثابت يحاول بما امتلك من أدوات إبداعية أن يسير بلا توقف.. وفي النتيجة نحن بشرٌ معرضون لانتكاسات نفسية وأوجاع روحية على – ما تؤكد الشاعرة أميمة إبراهيم – فما حدث ليس بهيّن.. إذاً؛ العلة في الحامل لا في المحمول على هشاشته الغالبة، وتقصد بذلك الشاعرة غادة اليوسف المثقفين السوريين الذين توفروا على قدر كبير من الهشاشة الفكرية والوجدانية، وهذا ما كشفته العاصفة التي عصفت بكل شيء على مدى السنوات التي تخطت العشر بفواجعها، فهم لم يكونوا بأحسن حالٍ من بقية شرائح المجتمع، وذلك بالنظر لمواقفهم المتخندقة التي جرفتهم فيها الولاءات كلها ماعدا الولاء لرسالة الثقافة ودورها في بناء الفرد.. وهذا يدل على عدم تجذّر القيم التي تنطحوا لها في وجدانهم بما يكفي ليترجموها فعلاً رافداً وداعماً للقيم الكبرى والمنوطة بهم قبل غيرهم كمسؤولية، وإلا فبماذا نفسّر ارتداد أهم الأقلام العاقلة إلى ولاءات تعصف بكل ما كانوا يطرحونه قبل الفاجعة السورية ؟!! والتي ساهموا هم في مآسيها، سواء شاركوا في تأجيج نيرانها، أو اتخذوا جانب الصمت؟!..
والصمت بالنسبة للمثقف في مواقف مصيرية كهذه انسحاب مُدان، بل وانتهازية وجبن ونذالة وتؤكد اليوسف: ما وجدت المثقف في هذه السنوات مختلفاً عن عموم السوريين بانتماءاتهم وتشرذماتهم، وما وجدته يتميز عنهم إلا بأنه الأكثر انتهازية، وقدرة على التبرير، والتضليل، والاستزلام، والاسترزاق.. ومن بقي منهم متمسكاً بما طرحه من قيم فلا يستطيع أن يستكمل مشروعاً ثقافياً يتماشى مع استحقاقات المرحلة.. هذا إن غربلنا هؤلاء، وكم هؤلاء قلّة، لعل هذه الحرب الظالمة التي عصفت بالكثير من الراكد والآسن والمتكلس، أيضاً كان لها ورغم دمويتها وما سببته من دمار؛ كانت لها إيجابية تخص المثقفين، إذ كشفت هشاشتهم على غير صعيد بما فيها هشاشتهم الأخلاقية والوجدانية.. أمّا القلة القليلة التي تثبت عكس هذه القاعدة، فهم كالقابض على جمرة من نار، أو كمن يخرط شوك القتاد، وهو يسير على الجمر حافياً، ويغط قلمه بنزفه محوطاً بألف لغمٍ ولغم من ألغام المثقفين ذاتهم.. من هنا يحقُّ لنا أن نتساءل: كيف يمكن أن يكون المثقف علمانياً ومعارضاً وثورجياً وداعياً ديمقراطياً ومدافعاً عن الحرية، وفي الوقت نفسه – يشمت إذا لم نقل- يؤيد اغتيال علماني آخر برصاص أعداء العلمنة والديمقراطية والحرية..؟!!
ما قبل مدنيّة
من هنا أيضاً لا يمكن النظر إلى الثقافة اليوم على أنها خارج سياق الحرب الظالمة الشاملة التي تشنها قوى التخلف والرجعية والغرب المتوحش على سورية – يؤكد الأديب نذير جعفر – هناك حرب حقيقية عليها وعلى ثقافتها الوطنية.. حرب تُغذيها نزعات ونعرات وأحقاد لإحلال شكل من ثقافة الردة والظلام وتسويقها بما يتناغم مع أهداف الحرب العسكرية والسياسية والإعلامية في هدم ما بناه السوريون ثقافياً ومعرفياً وعلمياً خلال قرون.. ومن هنا، فإنَّ المدّ الثقافي بأبعاده الوطنية والقومية والإنسانية الذي شهدته سورية منذ مطلع الخمسينيات يواجه اليوم انحساراً مؤقتاً على مستوى النشر والتلقي بفعل هذه الحرب وانعكاساتها على حياة الناس واهتماماتهم.
جعفر: لا يمكن النظر إلى الثقافة اليوم على أنها خارج سياق الحرب الظالمة
صحيح أن الفعل الثقافي تراكمي، ولا يمكن له التأثير المباشر في القوى المتصارعة.. لكن هذا الفعل – يُضيف جعفر – عندما يرتبط بشخصيات علمية وثقافية وإبداعية وإعلامية لها وزنها وسمعتها وشهرتها؛ فإنه يشكّل رافداً لهذه القوى أو تلك.. كما يساعد في ظل ثورة الاتصالات وشبكات التواصل على استقطاب شرائح متعددة تصطف هنا أو هناك سواء بفاعليتها الميدانية المسلحة أو بتجييشها الإيديولوجي مشكلة بذلك رافداً مستمراً لهذه الحرب المضطرمة التي تستهدف أولاً وأخيراً سورية الوطن بتاريخها وحضارتها واستقلالها ودورها الإقليمي البارز في مواجهة (إسرائيل) وحلفائها.. لقد كشفت هذه الحرب الأقنعة التي كان يتستر خلفها المثقفون في السلم.. فاتضح المثقف المتجذر وعياً وصلابة ورؤية وتجاوزاً للنزعات ما قبل الوطنية من المثقف الهش الذي لم يتخلص من طائفيته أو مناطقيته أو عشيرته! وهذا ما يفسر هروب عدد كبير من هؤلاء المثقفين ولجوءهم إلى دول سمتها الدينية، وأحياناً «الإخوانية»، بوصفها واحات للديمقراطية! تتيح لهم شرعنة الإرهاب وتصعيد نبرتهم الخطابية القتالية ضد بلدهم ومن يخالفهم الرأي من المثقفين الوطنيين الذين يقفون في وجه قوى الإرهاب والانحطاط الفكري والإنساني!