عَشية حريق ساروجا.. شفيق اشتي يرسم الرقص على النار
تشرين- لبنى شاكر:
حِين التقيناه قبل أقلّ من شهرين، حدّثنا الدكتور شفيق اشتي عمّا في جعبته من أعمالٍ فنيّةٍ لم تُعرض في دمشق، رغبةً منه في ترك فاصلٍ زمني بين معرضٍ وآخر، لهذا كان الإعلان عن معرضه “الرقص على النار” في غاليري البيت الأزرق مُفاجأة لِمُتتبعي مشواره، لِاختلاف التعاطي مع الوقت على غير المُعتاد عنه، والذي امتدّ نحو الموضوع أيضاً، إذ لم يسبق أن ابتعد اشتي عن عوالم العمارة والأوابد الأثرية منذ احترافه المُبكّر عام 1976، ويبدو أن الرغبة في التغيير اكتملت مُؤخراً عشية احتراق بيت عبد الرحمن باشا اليوسف أمير الحج الدمشقي في منطقة ساروجا، عندما كان يُسلّم لوحاته للغاليري الموجودة في المنطقة نفسها، وهنا فقط اعتمد العنوان المذكور، مُقِرّاً بأن المساحة التي تلتهمها النيران أوسع مما نتخيّل.
بدأت الحكاية عام 2018، على ما يقوله اشتي، بموازاة رغبته بالخروج بعض الشيء عن موضوعات معارضه السابقة، فاتجه نحو الجسد والرقص، وأنجز مجموعة أعمالٍ زيتيةٍ، مُحاولِاً توظيفها أو الاتكاء عليها في التعبير عما نعيشه، لكنها ظلّت مركونةً في مرسمه منذ عودته من الأردن عام ٢٠٢٠، إلى أن سمحت الظروف بعرضها بعد شهرين من معرض “العشاء السري بعد الأخير” في المركز الوطني للفنون البصرية، يقول اشتي في حديثٍ إلى “تشرين”: “الفرق الزمني بين المعرضين طبيعي، إذا دعت الحاجة، ولأسباب، أولاً غزارة الإنتاج، وثانياً الوطن يمر في أحلك أزماته ولو عندي معرضٌ ثالث يُعبّر عن هذه الأزمات لما ترددت في عرضه.. ولمَ لا؟ الرقص ملجأٌ يأوي إليه الإنسان للتعبير عن مشاعره في كل الظروف الاجتماعية، يُواسي، يُعزز الثقة بالنفس، ينقلك إلى عالمٍ آخر”.
في الأعمال “74 لوحة”، انسيابيةٌ لافتةٌ، يظهر فيها الجسد حراً، مُستسلماً لفضاءٍ ما حوله، غير عابئٍ بغدٍ أو ماضٍ، يقفز وينحني ويدور، يرقص وحيداً مرات، ومع شريكٍ وشركاء مراتٍ أخرى، يصعب تبيانه أحياناً بين اللون والخط، مع تبسيطٍ واختزالٍ في الرسم وتنوّعٍ في الحركة، بحيث تختلف كل لوحة عن الثانية، رغم الخيال الحاضر في معظمها، في تشكيل الأشخاص بمختلف وضعياتهم، وكما في أعمال اشتي عموماً نرى لطخاتٍ لونيةً عريضة، قويةً وعفويةً وثابتةً ومزيجاً لونياً من الرماديات والألوان الغامقة والمُشرقة، كما نلحظ بوضوحٍ ملامح معمارية تتناسب مع ما يتطلبه التكوين والمشهد، فتحتل في بعض اللوحات الخلفية، فيما تبدو في أخرى جزءاً من عرضٍ مسرحي تقليدي، يؤديه راقصون ومتفرجون وخشبة وأضواء، يجب على المتفرج أن يتمعن في اللوحة جيداً إذا ما أراد التمييز بينهم، وفي عدة لوحاتٍ يكتمل حضور العمارة مع الحركات، بحيث لا يكون المشهد الراقص من دونها.
“الرقص على النار”، بما فيه من تناقضٍ بين المتعة والألم، يظهر في إحدى اللوحات، التي تنتشر فيها بقعٌ أرجوانيةٌ وحمراءٌ بكثرة، بما يُقارب مشاهد ألسنة اللهب، التي تتطاول مع اضطرام النار، كذلك تظهر مجموعة الراقصين باللون البني، كأنها تتحول إلى تراب، فيما يصعد بعضها فوق بعض، وفي لوحة أخرى تتحد الأجساد في رقصة، تشبه العراك، ويعلو أحدها فوق الأرض، ممسكاً بصاحبيه، من دون أي تفاصيل للوجوه أو تشريحٍ للعضلات وقياسات الجسد، وفي إحداها تُحاول الأجساد الطيران، فتفرد أيديها كما لو أنها ستحلّق، وفي غيرها تختلط الشخوص كما لو أنها هائمة أو فزعة، تصطدم وتتباعد وتتدحرج، بلا وعيٍّ بما يجري حولها.
يُؤكد اشتي هويته الثابتة في هذه التجربة أيضاً، وهو ما يُضاعف من أهميتها حقيقةً، فهو يتمسك بأسلوبيته ويُطوعها مُبرزاً خبراتٍ وحرفيةً وتجارب مُتراكمة لأكثر من نصف قرن، بحيث يأتي معرضه الفردي الـ28 نقطة علّامٍ فيها، ينحاز فيه للتجديد والبحث ومُواكبة الراهن، ويستند دائماً إلى خصوصيةٍ، نجح في صياغتها وتحفيزها باستمرار، ولعلنا في الأيام القادمة نشهد استعادته لمجموعةٍ اشتغلها عام 2011 في بحثٍ لكلية الفنون الجميلة في مدينة إدنبرة في اسكوتلندا، لم تُعرض إلى اليوم.