«جركس» و«الترجمان».. قمران دمشقيّان يغيبان
تشرين- سامر الشغري:
في بحر أسبوع واحد نودع قمرين دمشقيين لمعا في سماء الإبداع وأضاءا فيها بقوة، ثم خفت بريقهما برغبتهما، وغابا عن الساحة، قبل أن يسافرا في رحلتهما الأبدية، ويلتحقا بركب أبناء هذه المدينة من المبدعين.
المبدعان كانا الفنان محمود جركس والصحفية الأديبة سهام الترجمان، ومع فارق تجربتهما إلا أنهما يشتركان في أمور عدة فضلاً عن انتمائهما لدمشق، أولها تفردهما عن أبناء جيلهما، وثانيها زهدهما الشديد بالأضواء، وثالثها وهو المؤسف أن الشارع الفني والثقافي ومن خلفهما الإعلام لم يتذكرهما إلا بعد وفاتهما.
كان محمود جركس الذي توفي الثلاثاء الماضي عن تسعين عاماً الوحيد الباقي من فريق مسرح نادي الأزبكية، تلك الفرقة الرائدة في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، والتي ضمت في جملة عضويتها فنانين حملوا المشاعل، ومهدوا الطريق لمن جاء بعدهم، لقد رحلوا جميعهم تباعاً رغم أنهم في عمر جركس، ولكن الأقدار شاءت أن تمد في عمره وحده، منهم الفلسطينيان محمد جبولي وعبد الرحمن أبو القاسم والدمشقي عدنان بركات.
ويعرف كل المشتغلين في الفن أخلاق جركس العالية وطيبته وتواضعه، ولكن هذه لم تكن مزاياه الوحيدة، فهو صاحب أداء صوتي تعبيري لا يجارى ونطق سليم ومحكم، ربما كان لا يصل لقمّة خالد تاجا في الأدوار التاريخية أو عمر حجو في الكوميدية، ولكن عشقه للخشبة جعله يشارك في نحو 60 عملاً للمسرح العسكري الذي كانت بدايته فيه، ونادي الأزبكية والمسرح القومي والشعبي والحر.
أداء جركس الصوتي المبدع جعله اسماً دائم الحضور في الدراما الإذاعية، ومن أعماله في هذا الصدد (حكم العدالة وقصة في تمثيلية وشخصيات روائية وعالم المسرح)، وفي الأخير قدم شخصيات لا تنسى منها كما في مسرحية «العادلون» لألبير كامو، إذ أدى بصوته شخصية يوري أننكوف رئيس تنظيم العمال الثوري الروسي الذي يغتال الدوق سيرج عم القيصر.
الجانب الثاني من إبداع جركس يعرفه أغلب الناس، والذي تجلى في مشاركاته الدرامية ولاسيما التاريخي منها بدءاً من دور النبهان الذي لعبه في مسلسل (الزباء) والقصاب في مسلسل (القسام) والزبيد في (العبابيد) وأبو النجم الطائي الذي يزوج ابنته لأبي مسلم الخراساني في (صقر قريش).
إضافة لهذه الأعمال التاريخية هناك باقة قليلة العدد متنوعة في مسيرة جركس، منها: نساء بلا أجنحة وشجرة النارنج وهجرة القلوب إلى القلوب والفراري والجمل والخوالي، ليغيب جركس برغبته نهائياً عن الشاشة طوال عشرين سنة، وحتى زهد بالحوارات الصحفية واللقاءات التلفزيونية، ولم تنجح المحاولات العديدة في جعله يحل ضيفاً على أي منها.
أما الأديبة سهام الترجمان التي رحلت الخميس الفائت، فكانت أحد رموز الجيل الذهبي في الأدب النسائي السوري المعاصر ولاسيما الدمشقي، فهي مجايلة للاديبات غادة السمان وكوليت خوري وألفت الإدلبي، ولكنها اختطت لنفسها خطاً يختلف عنهن جميعاً، فتخصصت في أدب السيرة الذاتية، وما يعرف بأدب المدينة.
ربما كان خليقاً تتويج كتابها الأشهر (يا مال الشام) واحداً من أفضل الكتب التي أنتجها المبدع السوري في المئة سنة الأخيرة.. لقد جاء هذا الكتاب خليطاً بين السيرة الشخصية وقصص تحمل عبق الماضي في دمشق وأنشوداته الجميلة، ومنه انطلقت الترجمان إلى أصقاع تاريخنا العربي، فانتقت منه – وهي زوجة المقاتل الشهيد – صوراً عن البطولة والشجاعة المفرطة، كحديثها عن الفارس العربي موسى أبي الغسان الذي تصدى وحيداً لجحافل جيش قشتالة، وهي تغزو غرناطة آخر معقل للعرب في إسبانيا.
حتى في كتبها الأخرى ظلت الترجمان وثيقة الصلة بالتوثيق بأشكاله، كما في كتابيها (جبل الشيخ في بيتي) و(المعتزلة) الذي كان كتابها الأخير، ولكنّ أياً من كتبها لم يبلغ شأواً كما (يا مال الشام) الذي طبقت شهرته الآفاق.
في العشرين سنة الأخيرة من حياتها توقفت سهام عن نشر نتاجاتها، قد تكون شعرت بأنها قدمت عصارة فكرها، ونشرت رسالة المحبة لمدينتها ولتاريخنا، وأصبح حضورها مقتصراً على عدد قليل جداً من الندوات والمحاضرات الثقافية التي تشارك بها ضيفةً، لتكون بذلك صنواً لجركس في زهدها بالأضواء.
في سيرة حياة جركس والترجمان الكثير من القواسم المشتركة، ولكن الرابط الأوضح بينها أن قيمة الإنسان لا يحددها الإنسان نفسه، بل مَن حوله أو من جاء بعده من بشر، وهذه القيمة لا تعتد بالكم كثيراً، بل بالشيء الذي سيبقى بعدنا إثر رحيله.