ملف «تشرين».. «ناتو» في قمة فيلنيوس.. مستقبل الحلف العسكري بمواجهة التكتلات الاقتصادية الكبرى.. رسائل خفية ومواجهات مصيرية تعيد منظومة الأطلسي إلى قلب الصراع العالمي الجديد
تشرين – بارعة جمعة:
أثبتت الوقائع تورط الولايات المتحدة الأمريكية في كل قضايا العالم، وإذا ما ذهبنا أكثر في تشخيص هذه الوقائع بدقة، لا بد أن نقف مجدداً وننظر بعين الحقيقة لمخرجات قمة «ناتو» الأخيرة في العاصمة الليتوانية فيلنيوس، التي قادتها أميركا بذراع تركي لمواجهة روسيا.
خارج السيطرة
يقوم بناء هياكل التحالفات العالمية على قاعدة تحصين النمو الاقتصادي بتحالف عسكري، هذا ما جرت عليه العادة وفق توصيف الدكتور في علم الاقتصاد في جامعة تشرين، سنان علي ديب، للأمر، إلا أنه ومع نهاية القرن الماضي أصبحت التقنيات العسكرية وأنواع الأسلحة وتجهيزات الجيوش متوافرة لدى التكتلات والدول نفسها، لا بل كان هناك تشجيع على الإسراع بالتسليح من أجل تشغيل معامل الأسلحة، ولا سيّما في الولايات المتحدة الأمريكية.
وإذا ما قربنا المشهد أكثر، سنجد أنه وفي السنوات الأخيرة في ظل العقوبات أصبح الجوع والفقر سلاحين بيد التكتلات الكبرى نفسها، لذا فمن الضروري لجوء الدول وفق رؤية علي ديب لتحصين نفسها اقتصادياً واجتماعياً لكسر قوة وسيطرة التكتلات العسكرية، لكون الأسلحة الحديثة تجاوزت حدود الجغرافيا أيضاً.
نصور: لا بد من الوقوف عند جدلية السياسة والاقتصاد في بناء الأحلاف والتكتلات
ولكن الرهان الاستراتيجي يبقى على الاقتصاد لاستنزاف الخصم
اليوم بدأت تتوضح الأمور شيئاً فشيئاً، لنجد أن دول حلف «ناتو» باتت مُشتتةً من الداخل وغير متماسكة وفق رؤية علي ديب وعلى رأسها دول أوروبا، ذات الرفاهية الكبيرة والشيخوخة السكانية، عدا عن محاولة الحلف ضم الإشكاليات إليه مثل أوكرانيا، بينما لا يزال الصراع على تشكيل عالم متعدد الأقطاب أشبه بمناورات الأرنب والسلحفاة ضمن عالم واقع في الصيرورة التاريخية والتحكم بالاقتصاد والتفوق الاقتصادي، إضافة لعرقلات أخرى من قبل أميركا، المتحكم الرأسمالي، الذي يقف عثرة في طريق مشاريع هي في طور الظهور، ضمن تحركات مدروسة ورسائل للدول التي تُخالف أوامره بفرض رؤى وسياسات عليها، منتجاً تأخيراً في أي قرار يتعارض مع استراتيجيتها ولا يخدم أهدافها بالاستمرارية.
البعض مُتلهف للتغيير، ما يجعل منه بعيداً عن الواقع وعن المتوقع استراتيجياً برأي الدكتور علي ديب، فالهندسة الأمريكية لا تُواجه وإن تفككت ستنعكس على العالم أجمع، لذا علينا بلوغ مرحلة التشخيص الدقيق وإن كان مخالفا لأفكارنا ومعتقداتنا، لتحصين أنفسنا والانطلاق للمواجهة، حيث إن قوّة «ناتو» ومصداقيته تنبع من مدى تغذية الرأسمالية العالمية الأمريكية له، وما نحتاجه اليوم هو الفعل، فالتجييش ضد النموذج الأميركي والذي تقوم به منظمة بريكس لم يثمر حتى اليوم، ولم نلمس أي تخوف منه بعد.
توسيع الدائرة
ما أظهرته قمة فيلنيوس الكثير من الخفايا والتباينات والاختلافات أيضاً، والذي بدا واضحاً في مسألة انضمام أوكرانيا والسويد لحلف «ناتو»، إذ إنها بمثابة الضامن لبقاء الحلف واستمراره بطابعه العسكري خدمةً لأهداف أميركا السياسية والاقتصادية والأمنية حسب توصيف الخبير الاستراتيجي الدكتور سليم حربا للواقع، ولعلّ طلب تزويد بولندا بالأسلحة النووية هو جوهر الخلاف بالتردد لقسم من دول «ناتو» الـ32 بتوقيت طلب أوكرانيا الانضمام إليه، كيف وهي تخوض حرباً مجهولة النتائج والمصير؟، يضاف لذلك المتابعة بتزويد أوكرانيا بالأسلحة أمام نفاد المخازن الأوروبية منها ضمن تأكيدات وزير الدفاع البريطاني عندما قال: يجب على أوكرانيا وزيلنسكي أن يدركوا أننا لسنا متجر أمازون ليطلب ما يشتهي ويريد.
تباينٌ وشرخٌ لا بل أزمة مواقف بين الدول وفق توصيف الدكتور حربا للمشهد، بين دول أوروبا التقليدية مثل فرنسا وألمانيا وبريطانيا المترددة وبين دول الشرق الأوروبي المتحمسة إرضاءً لأميركا. بالمقابل هناك رسائل اطمئنان وحسن نوايا للصين على لسان ماكرون عبر تصريحه بأن حلف شمال الأطلسي معني فقط بالمحيط الأطلسي ولا علاقة له بالمحيط الهندي والهادئ والتي تعود للحاجة الماسة للسوق والاقتصاد الصيني، وبما يتعلق بمحاولة أميركا استفزاز الصين في بحر الصين الجنوبي والمحيط الهادئ، ولا سيّما بعد تشكيل تحالف «أوكوس» ومحاولة أميركا توسيعه، ربما ليصبح جزءاً من «ناتو».
د. حربا: أوروبا أمام خيارين الاستمرار في العسكرة لمصلحة الولايات المتحدة
أو الحفاظ على ما تبقى لها من مكتسبات اقتصادية في ظل معركة كسر عظم بين أميركا وروسيا في أوكرانيا
واقع فرض نفسه ضمن صيغة التكتلات والأحلاف العسكرية منها والسياسية والاقتصادية، لما في ذلك من فاعلية ودور وحاجة في التنافس والتزام. والصراع بين القوى العظمى المتصدرة المشهد الدولي وفق قراءة الخبير العسكري وفيق نصور لقيام الأحلاف بما فيها الاتحاد السوفييتي، كما لتوسيع قاعدة القوى وامتلاك أدوات إضافية والأفضلية في المواجهة لديها، لتغدو ضرورة حتميّة في التحشيد السياسي لتلبية حاجات وأهداف جُلّها اقتصادي، وهنا لا بد لنا من الوقوف برأي الخبير نصور عند جدليّة السياسة والاقتصاد في بناء الأحلاف والتكتلات، لتأتي العسكرة تلبية لأهداف الطرفين، عبر تطويع الدول والحكومات في إطار تعزيز القدرات والأدوات للمواجهة المحتدمة، ليبقى الرهان الاستراتيجي في ساحات الصراع هنا بالشرق الأوسط برأيه على العامل الاقتصادي بينما الحرب العسكرية تشكل أداة استنزاف للخصم لإغراقه في مستنقع حرب طويلة تهوي به اقتصادياً، وهو ما سارت عليه الولايات المتحدة عندما قادت روسيا إلى الحرب الأوكرانية.
خطوة مُستعجلة
اخفاقات سياسية وعسكرية للناتو في أوكرانيا، جعلت من انعقاد القمة الأخيرة له حلاً إسعافياً برأي الخبير نصور، وسط الدعم العسكري والاقتصادي والسياسي الكبير للحرب دون الوصول لغايته في دفع الرئيس بوتين لاستخدام أدوات العسكرة للحسم، الذي هو غاية أميركا لاستثماره سياسياً، هنا تبدو القمة باهتة كاشفة هشاشة ومتانة الواقع الاقتصادي والسياسي الأوروبي الناتوي في المواجهة، لتبدو النتائج عكسية، وسط الضغط الكبير على ملفات أخرى، والذي بدوره أظهر – الخبير نصور- شكوكاً حول فعالية وقدرة «ناتو» في مواجهة القوة العسكرية الروسية والإمداد الاقتصادي الصيني، الذي أدرك منذ البداية هدف أميركا الحقيقي.
أوروبا ليست بخير، وتعاني ضغطاً كبيراً أيضاً، لا بل تعيش حالة تناقض بين الرضوخ للضغط الأمريكي لدعم وتسليح أوكرانيا التي تحولت لحرب كسر عظم بين أميركا وروسيا وفق تأكيدات الدكتور حربا، في وقت يرى الكثير من الأوروبيين أن الحرب ليست حربهم بل يخوضونها بالوكالة عن الأميركي، ناهيك بالضائقة الاقتصادية الخانقة التي تجتاح العالم وتحديداً أوروبا، والتي أرهقت الميزانيات الدفاعية الأوروبية، ما جعل العالم يقف أمام خيارين الأول: الاستمرار بالعسكرة والتجييش وسباق التسلح واستمرار الحروب واستنزاف الدول تحت شعارات وتهديدات افتراضية وادعاءات أمريكية بامتلاك روسيا السلاح النووي الذي يهدد وجود أوروبا على الخارطة.. هذه الادعاءات وغيرها ستكون على حساب رفاهية المواطن وأمانه واطمئنانه، وتطور تلك البلدان تكنولوجياً وعالمياً لخدمة الإنسان والإنسانية، المشروع بقيادة أميركا ومن خلفها الأوروبي من موقع الاضطرار لا من موقع الخيار الذي بات تقليدياً مُتعباً ومُنهكاً مقلقاً ومكلفاً بآن معاً.
بينما يبرز الخيار الثاني وفق الدكتور حربا هو قوة الاقتصاد، بما ينعكس على دخل ومستوى معيشة الإنسان ورفاهيته وتطوير العلم والتكنولوجيا لأغراض إنسانية، هنا تبرز منظمتا دول بريكس ومنظومة شنغهاي بمكوناتها وتوزعها الجغرافي والوزن النوعي لهما بشرياً واقتصادياً وعالمياً كمثال عن تحالفات اقتصادية تضمن أسواق عمل وتصريف واستثمار ذلك سياسياً بتأمين ما يلزم عسكرياً وأمنياً، والذي سيشكل مركز جذب أثبتته مساعي دول عربية مثل مصر السعودية للانضمام إليها، بعيداً عن
العسكرة والاستثمار في الأمن والسياسة.
د. درويش: مقابل تحالفات أميركية عسكرية مثل «أوكوس» و«كواد»
تطلق الصين وروسيا العنان لأقوى تحالفاتها الاقتصادية بريكس وشنغهاي.. إنه مخاض عالمي جديد
خيارٌ تقوده الصين اقتصادياً وسياسياً تتشارك فيه مع روسيا قانونيا وقيمياً وأخلاقياً وأيضاً عسكرياً برأي الدكتور حربا، بما يلزم ذلك من قوات عسكرية نوعية لتأمين وحماية هذه المصالح والاقتصاديات عسكرياً بعيداً عن الأحلاف العسكرية وعسكرة الاقتصاد والمجتمع، ويضيف حربا: بالمحصلة، دائماً الحرب متعددة الأشكال، وطابع الحرب في أوكرانيا عسكري بشكل عام، لكن الذي سيحسم الحرب قصرت أم طالت هو الاقتصاد، لأن روسيا ومن خلفها الصين وبريكس مستقرة عسكرياً ومستعدة لإطالة أمد الحرب والتعويض، لكن الأهم أنها أكثر استقراراً بالبعد الاقتصادي و السياسي، وهذا ما تفتقده أوروبا بالواقع القائم والقريب القادم.
الورقة الأصعب
العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، أوضحت أن اهتزاز الاقتصاد الروسي رهان خاسر وفق توصيف الخبير العسكري وفيق نصور، لما يتمتع به من مرونة وحيوية لم تؤثر به العقوبات، كما فشلت كل محاولات «ناتو» في تجنيد وضم دول اقتصادية بمواجهته، بموازاة ضغوط كبيرة على الصين حليف روسيا لتقويض التشبيك بينهما، الذي تعزز أكثر مؤكداً نظرية الاقتصاد الصيني «طريق واحد.. اقتصاد واحد» التي جمعت حيوية الاقتصاد الروسي وقوة الصيني والحاجة العالمية للموارد، ما يضعنا أمام تصوّرٍ ورسم جديد للمشهد العالمي، ويضع التحالفات الناتوية على المحك.
إلا أن متطلبات تحقيق الحاجات البشرية السكانية الملحة، يتطلب البحث عن حلول اقتصادية واللجوء إلى بناء تحالفات اقتصادية وتشبيك واسع برأي نصور، وخاصة أن المعلومات المسربة عن أن الاستهلاك الاقتصادي للجيوش وتسليحها كبير جداً، يحتاج موارد ضخمة، وهو أمر مقلق لجهة تأمين الموارد التي ستكون على حساب التحديات الاقتصادية المهمة، لذا نسمع عن بناء الجيوش الإلكترونية التي تعتمد التضليل الإعلامي لهزيمة الخصم، إلا أنه وفق رؤية الخبير نصور هذا الأمر سيُفضي لتوافقات دولية حول القضايا الملحة، ما سيجعل الولايات المتحدة تركن الكرة في ملعبها بشراكة استراتيجية للصين وروسيا، ضمن نظام عالمي متعدد الأقطاب، يُصلح المنظمة الدولية ويحقق فاعليتها، بدلاً من تأجيج الصراع وزيادة عجلة التسلح العسكري الذي سيُقوّض الأمن والسلم العالميين.
اعترافات صريحة
ما قدمته قمة «ناتو» هو تسليط الضوء من قبل الإعلام على موقف تركيا التي وافقت على انضمام السويد للحلف، كان بمثابة طعنة الغدر لشريكها الروسي حسب تحليل الأستاذ والدكتور في القانون الدولي بجامعة دمشق أوس درويش للمُخرجات، عدا عن دعم العصابات الأوكرانية الحاكمة في كييف بالطيران، كما أن توسع «ناتو» ومحاولة إعادة إحيائه بانضمام دول المعسكر الاشتراكي والسويد التي كانت تلتزم الحياد دليل على قيامه لخدمة سياسات أميركية غايتها الأولى ضرب روسيا ومحاصرتها في حديقتها الخلفية.
د. علي ديب: أقوى القواعد التي تقوم عليها التحالفات العالمية هي قاعدة
تحصين النمو الاقتصادي بتحالف عسكري هذا ما فعلته أميركا، وتفعله اليوم القوى الصاعدة
هذه السياسات لم تأتِ من عبث وفق تأكيدات درويش، بل ضمن خطة ممنهجة كانت ضمن اتفاقية وقعت عام 1993 بين الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون والرئيس الروسي آنذاك بوريس يلتسن، تنص على عدم توسع «ناتو» بالحدود الخلفية، لكن أميركا لم تلتزم بها، كما التقارب بين الدول الأوروبية ألمانيا وروسيا عبر توقيع اتفاقيتي خط «نورد ستريم 1و2» كان سيدر فوائد اقتصادية كبيرة لأوروبا، والذي دفع بأميركا لتفجير الخطوط وخداع روسيا، خطط لم تنته عند هذا الحد، بل استمرت ضمن اتفاقيتي «مينسك 1 ومينسك 2» اللتين وبحسب اعتراف المستشارة الألمانية السابقة أنجلا ميركل كانتا محاولة لكسب الوقت لتسليح الأوكرانيين، كان بمثابة اعتراف منها بالمؤامرة على روسيا وفق ما نقله الدكتور درويش.
ولكي نكون واقعيين، لننظر قليلاً ضمن سياسة أميركا القائمة على الأحلاف البديلة مثل «أوكوس» و«كواد» الموجهين ضد الصين بالدرجة الأولى، لنجد بالمقابل قيام روسيا والصين ببناء تحالفات اقتصادية مثل بريكس وشنغهاي المتوسعين تصاعدياً باتجاهين اقتصادي – سياسي، كل ذلك لم يكن مجرد مصادفة برأي الدكتور درويش، بل هو البداية لمخاض نظام دولي جديد، والفترة القادمة مليئة بالمفاجآت.
اقرأ أيضاً:
ملف «تشرين».. عن سورية وتركيا ومسار التقارب.. الأجوبة البليغة في قمة فيلنيوس الأطلسية