آلة استوردتها وزارة الزراعة منذ سنوات ليأكلها الصدأ والمربّون سمعوا عنها ولم يروها… حكاية صناعة بائدة رغم أنها «دجاجة تبيض ذهباً»
تشرين- صفاء إسماعيل
رغم كل محاولات إنعاش تربية دودة الحرير في سورية، إلّا أنها لا تزال في موت سريري معلن منذ سنوات، بسبب غياب الخطط وغياب التسويق ، ما أدى إلى تراجع تربية هذه الدودة ، التي يؤخذ عليها اليوم أنها ذات سلالة لا تتمتع بالجودة المطلوبة، إن لم نقل رديئة، بسبب إصابتها بانعزالات وراثية، على حدّ تشخيص مديرية الزراعة في اللاذقية لحال السلالة التي تعطي إنتاجاً دون الوسط من ناحية جودة الشرانق والخيط، وحتى الكميات لم تعد “تجلب همّ” التربية.
محاولات الإنعاش لم تُحيِ تربية دودة الحرير المصابة بانعزالات وراثية
وإذا كانت العقوبات المفروضة على البلاد، هي العائق أمام استيراد سلالة نقية جديدة، تنفض الغبار العالق على هذا النوع من النشاطات الزراعية التقليدية، وخاصة في الساحل، وبعد توقف معمل الحرير الطبيعي الوحيد في الدريكيش الذي كان “الشّعرة” التي قصمت ظهر هذه الصناعة، فإنّ عائقاً أكبر يواجهها ويحول دون تزايد أعداد المربين، الذين بات عددهم في اللاذقية لايتجاوز أصابع اليد، وهو عدم وجود سوق تصريف للحرير الذي بات حكراً على ثلاثة تجار، يشترون شرانق الحرير من المربين بأسعار زهيدة ليبيعوها في أسواق دول مجاورة بأسعار باهظة.
ورغم كل الدعم الذي تتغنّى به وزارة الزراعة لدعم قطاع تربية دودة الحرير، والإجراءات والخطط التي تقوم بها للنهوض بهذا القطاع، إلّا أن “الجود بالموجود” لم يعد يفي بالغرض لإحياء تربية دودة الحرير، فالسلالة غير الصافية، ورداءة الإنتاج، ومعاناة المربين من عدم تسويق المنتج، تحول دون ذلك، حتى في وجود خطط وإجراءات لتفقيس البيوض في مديرية الزراعة لتصل إلى الطور الثالث وتوزيعها على المربين مجاناً، وتكريس زراعة التوت، وإقامة الدورات التدريبية.
وحتى الآلة الكهربائية التي استوردتها وزارة الزراعة قبل سنوات لدعم قطاع تربية دودة الحرير من خلال حلّ الشرانق، والموجودة حالياً في مركز الهنادي، لم تستخدم من قبل معظم المربّين، بحجة أنها تتطلب كميات إنتاج كبيرة ونوعية شرانق جيدة، وكلا الأمرين غير متوفر عند المربّين بسبب السلالة الموجودة، ما جعل الآلة من دون فائدة، حبيسة جدران الغرفة الموجودة فيها.
آلة حلّ الشرانق «للفرجة» فقط
مربو دودة حرير في اللاذقية أكدوا في حديثهم لـ”تشرين” أنهم لم يجربوا حلّ الشرانق بوساطة الآلة الكهربائية التي استوردتها وزارة الزراعة قبل سنوات، فقلة الإنتاج حالت دون ذلك، وذلك بعد أن أخبروهم في مديرية الزراعة بأن الآلة تتطلب شرانق جيدة وإنتاجاً لا يقل عن 30-40 كيلو غراماً، في الوقت الذي يتراوح فيه إنتاجهم بين 3- 15 كيلو غراماً ، مضيفين: السلالة التي تعطينا إياها “الزراعة” رديئة باعترافها، والإنتاج قليل، ما يجعل الدولاب الخشبي يفي بغرض حلّ الشرانق.
وتساءل المربون: بما أن السلالة لدينا ليست نقية وإنتاجها على حدّ تعبير الزراعة دون الوسط، ولا يمكن استيراد سلالة صافية بسبب الحصار والعقوبات المفروضة على البلاد، فلماذا لم تجلب وزارة الزراعة آلة تتناسب مع السلالة الموجودة والإنتاج، أو توجد طريقة لاستيراد سلالة نقية أخرى غير الموجودة لدينا التي عفا عليها الزمن، وتتناسب مع الآلة بحيث تنتج شرانق كبيرة تستطيع الآلة حلّها؟ .
مبينين أنهم خلال العام الحالي أخذوا يرقات من مديرية الزراعة، لكن الأعداد كانت قليلة، حيث أكد المربي فاطر معروف لـ” تشرين” أنه لم يأخذ سوى علبة فيها 3000 يرقة ، فيما العدد يجب أن يكون 20 ألف يرقة، ناهيك بأن السلالة ليست جيدة، مبيناً أن الإنتاج 3 كيلو شرانق فقط.
كما أشار معروف أيضاً إلى توقف دعم وزارة الزراعة ، حيث كانت قبل عامين تعطي كل مربٍّ مبلغ 2000 ليرة لكل كيلو إنتاج، لكنها منذ عامين توقفت عن الدعم المادي للمربين.
وأوضح مربون أنه في العام الماضي اشترت سيدتان الشرانق من مربين، لاستخدامها في أغراض الزينة والديكور، وتم بيع كيلو الشرانق بـ20 ألف ليرة، وحسب المربين هذا السعر لا يتناسب مع تعبهم ، وخاصة أن كل علبة يرقات تحتاج إلى نصف طن من ورق التوت. مؤكدين أنه لا تزال هناك سيدات تصنعن مناديل الحرير التراثية بوساطة النول، والصنّارة، لكن الأسعار المرتفعة لخيط الحرير تجعل سعر المنديل الذي يتراوح بين مليون إلى مليوني ليرة، حسب الوزن والطول والتخريز الموجود فيه، لا يتناسب مع دخل المواطن، ما يستوجب توفير أسواق تصريف.
وحسب المربين، فإنّ الحل بوساطة الآلة يوفر عليهم جهداً وتكاليف، وخاصة أن الأعباء باتت مرهقة جداً لهم ، في ظل عدم توفر الغاز لطبخ الشرانق، ولجوئهم لإشعال الحطب.
وطالب المربون باستيراد سلالة صافية نقية لتحسين اليرقات وزيادة الإنتاج، وإيجاد أسواق خارجية لتصريف المنتج، كما طالبوا وزارة الزراعة بعودة تقديم الدعم المادي للمربين المستمرين بعملية التربية كمصدر رزق لمواجهة غلاء المعيشة.
العمل جارٍ لتأمين سلالة بديلة
رئيس دائرة وقاية النبات في مديرية زراعة اللاذقية المهندس ياسر محمد أوضح لـ«تشرين» أن مركزين لتربية دودة الحرير، يتبعان للشعبة، الأول في وادي قنديل، والثاني في مشتل الهنادي، ويوجد في كل مركز صالتا تربية مجهزتان بالتجهيزات كافة، كما يحتوي كل مركز على حقل توت لتغذية اليرقات. ويتم الاحتفاظ بعبوات بيض دودة الحرير خلال فصل الشتاء، وفي بداية الربيع يتم تفقيس البيوض وتربيتها للطور الثالث (العمر اليرقي الثالث)، ثم يتم توزيعها مجاناً على المربين المكتتبين، ومتابعة أمور التربية من قبل فنّيي الشعبة المختصين بأمور تربية دودة الحرير، وتقديم كل الإرشادات اللازمة في هذا المجال.
وأكد محمد أن وزارة الزراعة استوردت قبل سنوات آلة صينية لحل الشرانق، وهي موجودة في مركز الهنادي، يستطيع المربي حلّ الشرانق بوساطتها مجاناً، لكن الآلة مخصصة لحل الشرانق ذات النوعية الجيدة، وذلك بحاجة لوجود سلالة صافية ونقية لدودة الحرير، فيما السلالة الموجودة لدينا أصيبت بانعزالات وراثية، ما أدى لإنتاج شرانق بحجم صغير، وخيط ناتج دون الوسط.
العقوبات حالت دون استيراد سلالة نقية.. والعمل جارٍ على النهوض بالتربية وزيادة الدعم
وأضاف: ناهيك بأن الآلة تحلّ كميات كبيرة من الإنتاج، لا تقل عن 20 كيلو غراماً من الشرانق، فيما إنتاج المربين قليل، وإذا كان المربّي يرغب بحل الشرانق بوساطة الآلة فعليه التقدم بطلب للمديرية، لافتاً إلى توزيع خمسة دواليب خشبية لحل الشرانق في أماكن تجمع مربي دودة الحرير بمناطق المحافظة الأربع ، حيث يقوم المربي بحل الشرانق مجاناً، وتعمل وزارة الزراعة حالياً على تأمين مصدر لبيوض سلالة صافية لدودة الحرير، موضحاً أن العقوبات المفروضة على سورية وراء التأخر باستيراد سلالة صافية لتعزيز مشروع النهوض بتربية دودة الحرير.
وفي إطار دعم وزارة الزراعة لقطاع تربية دودة الحرير، أشار محمد إلى توزيع 50 ألف غرسة توت هندي على المزارعين، واقترحنا إدراج زراعة التوت ضمن الخطط الحراجية القادمة، تتركّز على أطراف الطرقات والغابات في المناطق التي يوجد فيها راغبون بتربية دودة الحرير، كما يمكن للمربين الراغبين بعرض منتجاتهم من الحرير المشاركة ضمن المعارض الخاصة بدائرة التنمية الريفية والأسرية، لتسويق منتجاتهم.موضحاً أنهم حالياً بصدد إعداد قاعدة بيانات بأسماء المربين، وإنشاء مجموعة تواصل اجتماعي للتواصل معهم ومعرفة مشكلاتهم ومساعدتهم على حلّها، بالإضافة لإقامة دورات مجانية حول عملية تربية دودة الحرير، في مراكز التدريب التابعة لمديرية الزراعة.
غياب التسويق
رئيس شعبة النحل والحرير في “زراعة اللاذقية “جمال ياسين أكد تراجع عدد مربي دودة الحرير بشكل ملحوظ خلال السنوات الأخيرة،، إذ كان يوجد 72 مربياً عام 2018 فيما تراجع عددهم إلى 10 خلال 2023، عازياً السبب وراء ذلك لعدم تصريف المنتج من خيوط أو شرانق نتيجة عدم وجود سوق خارجية للتسويق وبسبب الظروف الراهنة للبلاد، وصعوبة تأمين سلالة نقية عن طريق الاستيراد من دول خارجية بسبب العقوبات المفروضة على سورية، ما أدى إلى قلة عدد المربين وبالتالي قلة إنتاجية السلالة المحلية، ويعود ذلك إلى أن استيراد تلك السلالة بحاجة إلى ظروف نقل خاصة.
غياب التسويق أمام تراجع القدرة الشرائية.. والمربّون عشرة فقط يصارعون للبقاء
وأوضح ياسين أن جميع المربين يستطيعون حلّ الشرانق بواسطة الآلة الكهربائية الموجودة في مركز الهنادي، لكنها لا تحل خيوطاً سوى الشرانق ذات النوعية الجيدة، وباعتبار أن السلالة الموجودة لدينا تنتج شرانق صغيرة وخيطاً من دون الوسط، فإن ملقط الآلة لا يستطيع التقاط الخيط جيداً، فبعد حل أول أربع لفّات من الشرنقة ينقطع الخيط، ما يؤدي إلى تضرر الإنتاج، في الوقت الذي يمكن حل الشرانق من دون انقطاع الخيط بوساطة الدولاب الخشبي، مؤكداً أن العيب في السلالة، والإنتاج دون الوسط، والكميات قليلة، وليس في الآلة التي حتى تعمل جيداً يلزمها إنتاج شرانق لا يقل عن 40 كيلو غراماً.
وبيّن ياسين أنه لا يمكن جمع الإنتاج لأكثر من مربٍّ وحلّه بوساطة الآلة، لأن المربين لا يقبلون بخلط الإنتاج، فلكل مربٍّ طريقته في التربية والاهتمام بالشرانق. مؤكداً إصابة المربي بالخيبة نتيجة عدم وجود سوق تصريف للمنتج، واحتكار ثلاثة تجار لشراء الشرانق وليس الخيوط، بسعر يتراوح بين 15-20 ألف ليرة للكيلو الواحد، وهو سعر لا يتناسب مع الجهد العضلي الذي يبذله خلال فترة التربية، ما جعل الكثير من المربين يعزفون عن هذه المهنة التي تعد مصدر رزق إضافياً للأسر الريفية الفقيرة.
مربون: ثلاثة تجار يتحكّمون بالحرير.. يشترون «بالرخيص» ويبيعون في أسواق مجاورة بـ«الغالي»
ياسين أوضح أنهم تواصلوا مع وزارتي الصناعة و التجارة الخارجية، لحل الشرانق وغزل الخيوط الحريرية ونسجها كالأقمشة، أسوة بمعامل الغزل والنسيج، لكن وزارة الصناعة قالت إنه ليس لديها معامل مناسبة، وتابع: اقترحنا أن نحل الشرانق وأن يقوموا بعملية التسويق، فكان الجواب أن القطاع الخاص يمكنه القيام بهذه المهمة.
وعن ماهية سلالة دودة الحرير الموجودة في سورية حالياً، أوضح ياسين أنه تم جلبها من الهند عام 2011 وهي سلالة نقية جيل أول ذات إنتاجية عالية، لكن تكرار التربية من السلالة نفسها أدى إلى انعزالات وراثية أثرت سلباً في نوعية الإنتاج من حيث جودة الشرانق والخيط.
الدورات معلومات نظرية من دون جدوى
رئيس الجمعية الوطنية لإنماء السياحة في سورية سحر حميشة أكدت لـ”تشرين” أن الجمعية لم تعد تقدم الدورات التعليمية للراغبين بتربية دودة الحرير، لعدم جدوى الدورات على أرض الواقع ووقوع المربين في الكثير من الأخطاء خلال تربية دودة الحرير، وإنما تم فقط تعليم عدد من السيدات اللواتي أبدين رغبتهن بتعلم تربية دودة الحرير.
والأجدى من الدورات -حسب حميشة- تقديم الدعم والاستشارة والإشراف على عملية التربية إلى جانب المربي خطوة بخطوة للوصول إلى مرحلة الشرانق, وأضافت: من يرغب العمل بهذا المجال عليه التواصل معنا لنقوم بإرسال مشرف يقوم بتعليم المربي طرق التربية الصحيحة، وتزويده بالإرشادات اللازمة للتربية ومعالجة أي مشكلة طارئة، بالإضافة لتأمين تصريف الإنتاج، بشرط أن يكون جيداً، من دون أن تفصح عن ماهية سوق التصريف.
وأكدت حميشة تردي نوع السلالة وموت عدد كبير من البيوض عند المربين أثناء عملية التربية، لكنها في الوقت نفسه أوضحت أن الجمعية أخذت العام الماضي بيوضاً من السلالة نفسها، من مديرية الزراعة وقامت بتربيتها، وقد وصلت إلى إنتاج جيد من خلال شرانق ممتازة وخيط جيد ومتين، ولدينا خطط للتوسع بعملية التربية بشكل منظم، خلال العام القادم.