«الدلة» و«الفنجان» أصالة وكرم وعبق التراث الثقافي السوري الشعبي
تشرين:
قهوة الصباح.. طقس يجمع العائلة والأحبة والأصدقاء يجعل الأحاديث هادئة والنفوس مسرورة والدعوة الى المشاركة بشرب فنجان من القهوة تعني الكثير من الود.
وفي جلسات السيدات غالباً ما ينتهي الطقس بقلب الفنجان وقراءة الرسوم المنتشرة داخل الفنجان من بقايا القهوة كأنها بشارة لصاحبه.. كما أننا نجد أن الأدباء والشعراء لم يكتفوا باحتساء فنجان القهوة عند الكتابة، بل استعانوا بها في كتاباتهم وقصائدهم للدلالة على معان متعددة تظهر في سياق القصيدة وفي ذلك يقول الشاعر نزار قباني:
جلست والخوف في عينيها / تتأمل فنجاني المقلوب / قالت يا ولدي لا تحزن / فالحب عليك هو المكتوب..
والصباح السوري يشبه الصباحات العربية حيث تُعد القهوة المُرة الأكثر شهرة في المشرق وفي سورية خاصة، وللقهوة المُرة أدوات تصنع خصيصاً وهي الأدوات المكونة من “دِلال” و”فناجين” و”مهباش” و”نجر” و”محماس”، وفي سورية والدول العربية المشرقية أصبحت رمزاً في بعض الأحيان لأنها تعد فيها تجسيداً لكرم الضيافة المشرقية والعربية.
كما أن صناعة “الدِلال” التقليدية و”السيوف” و”الخناجر»، كانت لها مكانة طيبة في المجتمعات العربية والمشرقية، التي اشتهرت بكرم الضيافة وحسن الاستقبال فكانت “الدلة” ولا تزال الوسيلة الوحيدة لصب القهوة، التي لا بد أن يشربها كل ضيف.
وعلى الرغم من طغيان تقاليد الحضارة الحديثة على الناس، إلا أن الأغلبية منهم ما زالوا يحتفظون بتقاليد معينة، مثل تقليد تقديم القهوة.. وهناك تقاليد معينة لتقديم القهوة بـ“الدلة” وتجمع “دِلال”، وهي على أنواع متعددة وأشهرها تلك التي تصنع من النحاس الأصفر والأحمر وتطلى (ترب) من الداخل، وتستخدم كل يوم وتكون مصفوفة فوق حائط الفخيرية، والبعض من هذه “الدلال” تصنع من الفضة قديماً أو البرونز أو النحاس أو من المواد الثلاث مجتمعة، وأقدم هذه “الدِلال” وأجودها وأثمنها “الدلة” البغدادية.
وتحمل كل “دَلة” اسم نوعها على مكان صنعها، باستثناء نوع “دلة الرسلانية” التي تنسب لأسرة “رسلان” في الشام. وللدلال المستخدمة في صنع القهوة وتقديمها عدد يختلف من منطقة إلى أخرى والمعتاد هو استخدام ثلاث أو اثنتين، لكن في الأغلب استخدام ثلاث؛ وهي: “المطباخة” أو “القمة”، وفيها تغلى القهوة وهي ذات غطاء مسطح، وهناك “المصفاة” التي تكون لأكبر دلة، وفيها تجمع حثالة القهوة، كما تصفى فيها القهوة. وأخيراً “المبهارة” أو “المزل” التي تقدم بها القهوة للشرب.
أما خطوات تصنيع القهوة المُرة، فهي تتم على مراحل، تبدأ عادة من وضع حبوب البن على النار بوساطة “المحماسة” وهي إناء مقعر، حيث يحرك فيها البن بوساطة أداتين حديديتين على شكل ملعقة ذات يد طويلة يسميه أهل “الرقة” “المحماس”، يحرك البن حتى تنضج الحبات جميعها، ومن ثم تطحن القهوة وتدق بوساطة “النجر”، ثم تخلط مع بهاراتها من الهيل والقرنفل والزعفران في دلة كبيرة هي “القمقوم” أو “المبهار”، وتسكب بعد عدة عمليات مركبة في دلة مناسبة وتقدم للضيوف.
تقدم القهوة العربية المُرة وفق عادات وتقاليد متعارف عليها بين الناس منها: أن من يقوم بصب القهوة عليه أن يكون واقفاً ممسكاً الدلة في اليد اليسرى، وذلك من أجل أن يقدم الفنجان للضيف أو الشارب باليد اليمنى، وأن تكون القهوة مسكوبة بالفنجان بكمية محدودة جداً وهذا مبدأ عام، وعلى “القهوجي” ألا يجلس حتى ينتهي جميع الحضور من شرب القهوة، وعند سكب القهوة وتقديمها للضيوف فعلى “القهوجي” أن يبدأ من اليمين، أو يبدأ بالضيف إذا كان كبير السن، وعلى”القهوجي” أيضاً أن يكرر السكب حتى يقول الضيف كفى أو يهز الفنجان، ومن مهارات “القهوجي” أن يحدث صوتاً خفيفاً مصدره إصتكاك الفناجين ببعضها بعضاً لتنبيه الضيف إذا كان شارداً، إلا أن هذه الحركة بإصدار الصوت تتم فقط في أوقات الفرح والأيام العادية، أما في أوقات الحزن كالعزاء فلا تجوز.
وللذة شرب القهوة تقول العرب: الفنجان الأول لرأسي، والثاني لبأسي، والثالث لعماسي، ويقصد بذلك أن الفنجان الأول لرأسي أي إنه يزيل النعاس عن رأسي أو عقلي ويجعله نابهاً، أما الفنجان الثاني لبأسي أي بعد شربه يزيدني بأساً وشجاعة، والمقصود بالفنجان الثالث أنه يزيل الصداع واللبس وهذا مقصده بالعماس.
ومن المتعارف عليه أن “القهوجي” لا يصب القهوة للضيف في فنجان معيوب أي فيه كسر، بل يجب أن يكون الفنجان سليماً، إذ يعتبرون الفنجان المعيوب يجلب الشؤم.
وتعد دلة القهوة رمزاً للجمال الفني، وليس مجرد وعاء من النحاس، ولاسيما الدلة المصنوعة يدوياً التي غالباً ما تحمل اسم صانعها، لذلك كثيراً ما نجد لوحات تشكيلية تجسد الطبيعة الصامتة، الدلة والفناجين كما نحتوا شكل الدلة بخامات من عروق رائعة.