تَأملاتٌ وروحانيّاتٌ وخواطر… لينا رزق تبحث في «سرّ الوجود»
تشرين- لبنى شاكر:
عَوالمُ أخرى أو خيالاتٌ تمتزج فيها أفكارٌ وتهيؤات؛ أيّاً يكن التوصيف الأدق لمعرض لينا رزق المُقام حالياً في صالة السيد حتى نهاية الشهر الجاري، فهي تَصحب زوارها إلى حيث يَمضي أحدنا وحده عادةً، باحثاً عن صمتٍ طويل وطمأنينةٍ بلا ارتياب، يبتعدان به عن اللهاث اليومي الذي لا ينتهي إلا ليبدأ ثانيةً، لهذا كانت دعوتُها للالتفات إلى ما يختبئ في دواخل البشر من روحانيات، تكدستْ فوقها الهموم والمشاغل وخيبات الخذلان والفقد، حتى أصبحتْ من المَنسيّات.
تُؤمن رزق بأن المتاعب على تتابعها وكثرتها جزءٌ من الحياة، حيث لا تستقيم ولا تتوازن من دون أسىً ما أو مأزقٍ أو توجّع، لكن الفن يذهب بنا نحو أماكن مُغايرة، فيها من النقاء والسكينة الكثير، تُتيح لنا رؤية جمالياتٍ ونورانياتٍ كثيرة في نفوسنا أولاً، وفيما حولنا أيضاً، وفي هذا السياق اختارت العبارة الجدليّة «سر الوجود» عنواناً لمعرضها الفردي السادس، تقول في حديثٍ إلى «تشرين»: «الفن بلا مُنازع، يُعطي القيمة الحقيقية للحياة، ويُظهر ما فيها من إبهار، أنا هنا أتمرّد على الآلام، واُقدّم النور الذي نبحث عنه جميعنا».
التفكير بما يُمكن للفنون عامةً أن تكونه أو تُصيّر الآخرين عليه، إذا ما كانت سراً للوجود حقاً، يمضي بنا نحو تساؤلاتٍ تتداعى من تلقاء نفسها، تقول رزق «لِتكن إذاً دعوةً للتأمّل وإعادة النظر»، وهو ما تستوجبه لوحاتها الـ (30) التي تجتمع فيها أحلام اليقظة وجموح الخيال والرغبة في التخلّص من القلق والاضطراب المُتأصلين في تركيبة الخلق، ففي لوحةٍ بعنوان «تلاشي»، مَلامحٌ لوجهٍ بائس في زاويةٍ واحدة من اللوحة، يبدو موصولاً بالفراغ، سابحاً في حيزٍ خالٍ من أي جوهر، وفي لوحة سمّتها «السكينة» ينهمر سيلٌ مضيء من بقعٍ لونية طولانية، ويظهر وجهٌ مُبتسم بِخجل.
تذهب رزق نحو الوجوه أيضاً في «هيام»، حيث تنبتُ معالم وجهٍ من آخر، لا ندري أيهما مبنيٌّ على نظيره، في تجاورٍ لافت بين العتم والضوء، وفي «قفزة البجعة» يندغم كذلك جسدٌ لأنثى مع ثانٍ للطائر المعروف بضربات أجنحته البطيئة ورقبته الممدودة أثناء الطيران، مع قدرته على التحليق إلى ارتفاعات كبيرة، تماماً كما فعلت رزق، مُفسِحة المجال للحركة المُتثاقِلة، وسط فضاءٍ تتزاحم فيه جزئياتٌ بيضاء، وأخرى من تدرجات الألوان الترابية، وفي لوحة «الأفق» مساحةٌ تتلاصق فيها نُتفٌ وشذراتٌ من الأصفر الذهبي والبرتقالي الفاتح والبني اللامع، في وسطها ينبعث نورٌ، يُعطي ما حوله بهجةً وحركة.
ما سبق من خواطر وتأملات، يكتمل مع سُطوحٍ نافرة قليلاً، صنعتها ضربات ريشة أو سكين، بشكل شطحات صغيرة كثيفة وصلبة، وعلى حد تعبير رزق «سطوحٌ زُخرفية، جاءت فكرتها من الطرق التي تتبعها في الطباعة، والتي تعتمد أربعة ألوان الأزرق والأصفر والأحمر والأسود، من خلال نقاط تُدمج مع بعضها لتعطي تدرجاتٍ وإيحاءاتٍ جديدة»، تُضيف أيضاً عن الجدة في طريقة عملها «أقول باستمرار إن على الفنان البحث عن نفسه، ربما يجد ما لا يتوقعه، فثمة إمكاناتٌ وأفكارٌ ورُؤى، هذا ما فعلتُه في التكنيك الجديد بالألوان الزيتية، استقيتُ منه بصمةً خاصة، كانت بمنزلة انعطافةٍ حقيقية لي».
احتاج التحضير لمعرض«سر الوجود» أربع سنواتٍ تلت المعرض السابق لرزق عام 2018، وكما تُوضح، من الأفضل الإبقاء على فواصل زمنية طويلة بين المعارض الفردية لأسبابٍ عدة، أهمها بالتأكيد أن يكون لدى الفنان ما يُقدّمه للمُتفرج الذي بات مُطلعاً على تجربته وذهنيته، ولا يُفترض أن يحد هذا من نشاطه عموماً، وهو ما تفعله منذ سنوات، إذ أسستْ جمعية شموع السلام التي تُحاول إفساح المجال أمام الفنانين التشكيليين لتعزيز حضورهم في الحياة العامة، كما ساهمتْ مُؤخراً في إقامة معرض «ست الدنيا» الذي استضاف خمس عشرة فنانة لبنانية.