«المُنسِّقُ الفنيّ».. مهنةٌ جديدة في الحياة التشكيليّة السورية
تشرين- بديع صنيج:
عادةً ما يستأثر أصحاب «الغاليريات» باختيار الفنانين التشكيليين لعرض أعمالهم، إذ على الأغلب يكونون المديرين الفنيين لصالاتهم، لكنهم يسعون في معظم الأحيان إلى أن تكون خياراتهم من فنانين لهم حظوتهم في الحياة التشكيلية، وسبق لهم أن تركوا بصمتهم الواضحة على الخريطة الفنية، لما يستتبعه ذلك من فرص أكبر في بيع لوحات أو منحوتات، وتالياً تحقيق مكاسب خاصة لهم من نسب البيع الخاصة بالصالات، والتي تصل في بعض الأحيان إلى أربعين في المئة.
طبعاً، هناك استثناءات في طريقة التفكير التي يعمل بها مديرو الصالات الفنية، حيث إنهم يساهمون في إبراز أحد الأسماء من المواهب الجديدة، والتي يتوقعون أنه سيكون له مكانة مهمة على الساحة التشكيلية، لذا يسعون للترويج له ولأعماله بزخم أكبر، لما يعود عليهم بالفائدة المادية، لكن تبقى تلك الاستثناءات قليلة على أهميتها.
والحديث عن رؤية صالات العرض الخاصة وأصحابها، يقابله على الكفة الأخرى رؤى مديري صالات الفن التشكيلي الرسمية كصالة الشعب، والمعارض التي يقيمها اتحاد الفنانين التشكيليين السوريين في عدة أماكن كالقلعة وخان أسعد باشا وغيرهما، لكن تلك الرؤى الرسمية وُسِمَت في الفترة الأخيرة بالتقليدية وعدم امتلاكها الخبرة الكافية لخلق حراك تشكيلي حقيقي ومستدام.
ويمكن أن نستثني من الصالات الرسمية المركز الوطني للفنون البصرية بإدارته التي تعمل وفق استراتيجية واضحة في عدم الركود للسائد، والبحث الجاد عن المواهب الشابة وتمكينها من خلال ورشات على مستوى عال، وتالياً إقامة معارض فردية وجماعية شكَّلت هزّة حقيقية ضمن المياه التشكيلية الراكدة، طبعاً إلى جانب معارض جديدة أو استعادية لأسماء تشكيلية مهمة.
وفي موازاة ذلك لاحظنا في الأشهر الأخيرة بروز تخصص كان مُهمَلاً أو مغيَّباً في الساحة التشكيلية وهو «المُنَسِّق الفني» الذي يسهم بخبرته ورؤيته الخاصة في إقامة معارض فنية غير تقليدية، سواء من ناحية خياراته المميزة للفنانين أصحاب الاشتغالات الفريدة، أو فيما يتعلَّق بطريقة العرض المبتكرة، أو الاهتمام بتصدير الأعمال الفنية خارج الصالات التقليدية، وهو ما شكَّل رديفاً مهماً ومغايراً للحركة التشكيلية السورية.
من أبرز أسماء المنسقين الفنيين في سورية «نور سلمان» التي كانت تعمل ضمن «غاليري» زوايا ثم ما لبثت أن استقلت عنه، متابعةً بمفردها التحضير لمجموعة من المعارض، كان آخرها معرض «اختلاف» الذي حققته لمجموعة من الفنانين الشباب على سطح مركز riser hub لتعليم اللغات والمهارات، وأيضاً معرض «أحلام اليقظة» للفنانة صفاء الست واشتغالاتها التشكيلية بالمعدن، ضمن منزل في منطقة «أبو رمانة».
تشرين التقت «نور» لنعرف رأيها وآلية عملها في التنسيق الفني فقالت: هذا الموضوع ليس سهلاً البتة في سورية، خاصةً أن المنسق الفني يعمل عمل «غاليري» بأكمله، ابتداءً من اختيار الفنان، وانتقاء الأعمال المشاركة، مروراً بتحديد مكان العرض وتجهيزه إن كان غير مجهز وغير ذلك الكثير.
توضح: عندما تكون المنسقة تعمل ضمن «غاليري» فهذا أسهل بكثير، لأن كل الأمور شبه جاهزة، أما في حالة مكان غير مجهز أساساً للعروض الفنية، فإنني أبداً من الصفر، وهذا بحاجة إلى جهود مضاعفة، علي أن أحضر كل شيء من تعليق الأعمال وإسقاط الإضاءة المناسبة عليها، وترتيب كيفية العرض، أضف إلى ذلك العمل المرتبط بالعلاقات العامة من دعوات وبيانات صحفية وإعلانات وغيرها، حيث أضع روحي في كل تفصيل، وأسخر كل جهدي في خدمة الفنان.
تقول نور: أشعر بأن عليّ أن أقتنع مئة بالمئة بإبداع أي فنان أعمل معه، وأن أحب شغله، فمن دون ذلك لن أستطيع أن أحبب الناس بأعماله، وهذا يجعلني في الوقت ذاته متأكدة من أن المعرض سيحصد أصداء جميلة.
وتضيف: أشتغل مع الفنانين الذين أؤمن بهم وبموهبتهم، وأعمل كل شيء من الألف إلى الياء، وأعطيه حقه حتى النهاية، ورغم أن هذا العمل بحاجة إلى مجموعة من الأشخاص لكنني أقوم به وحيدة ، طبعاً يساعدني مصمم غرافيك ومصور، لكنني أشرف على كل صغيرة وكبيرة، وأستمتع جداً بعملي رغم التعب الكبير، وفي رأيي ينبغي أن يكون هناك الكثير من المنسقين الفنيين.
في سياق مشابه سعت خريجة قسم النحت الفنانة «نبراس قطيشات» في مساحتها الإبداعية الحرة التي أسستها تحت اسم «كراكاز» إلى أن تكون عوناً وسنداً لأصحاب الإبداع التشكيلي المميز، وخاصةً من فئة الشباب الطامح لترك بصمته في بداية حياته الفنية.
وفي حديثها لـ«تشرين» أوضحت أنها تقدم الرعاية والدعم لأي شاب لديه موهبة ومَحبة لعمله وفنّه، سواء كان بالرسم أو النحت أو التصوير وحتى الأعمال التشكيلية اليدوية. تقول: أي شاب لديه شغف يناسب هوية كراكاز أقدم له مساحتي للدعم والتدريب، ابتداءً من طرح الفكرة والعمل عليها، مروراً بالتدريب إن كانت ثمة ضرورة لذلك، حتى الوصول إلى تقديم إنتاجات ذاك الفنان بأبهى صورة، وإن شعرت بأنني عاجزة عن المساعدة في نقطة ما، فإنني أستعين بأساتذة وأصحاب خبرات يُقَيِّمون ويُقوِّمون أفكار وأعمال الفنانين ويساعدونهم على إنجاح مبتغاهم.
وكما أخبرتنا نبراس فإنها تسعى لتقديم المعارض الفنية بصورة مختلفة عن العروض التقليدية، وبطريقة مغايرة عن الموضوع التجاري الشائع، خاصةً أن كراكاز حسب وصفها «مساحة للشريحة الشبابية ومنطقة للحوار أساساً»، ومع ذلك فإنها لا توفِّر جهداً في الترويج لنتاجات الشباب الفنية بعد العرض، بل تسعى ما استطاعت لأن تكون صلة وصل بين المُبدع والراغب في اقتناء أعماله، ما يؤمن استقراراً مادياً بنسبة معينة للفنان، ويدفعه للمزيد من الاشتغال على فنّه.
وختمت نبراس قولها: كل شيء ضمن هذه المساحة الإبداعية هو اجتهاد شخصي، من المراحل الأولى للتحضير، مروراً بتأمين شروط العرض بمستوى لائق فنياً، والسعي لجذب اهتمام الجمهور بالحضور والتعرُّف على نتاج الفنان، وليس انتهاءً بآليات التسويق له.
ربما يكون تخصص المنسق الفني جديداً على الساحة التشكيلية، لكنه بدرجة من الدرجات استطاع أن يترك أثره الواضح على الحياة الفنية، بما حققه من كسر القوالب الجامدة في عملية العرض، والخروج بالأعمال إلى أماكن جديدة لم يتم التفكير فيها مسبقاً، وتأمين مساحات مبتكرة ليعرض الفنانون أعمالهم، وينالوا الكثير من الاهتمام على المستوى الإعلامي والنقدي والجماهيري.