قائد «الأوركسترا» أو «المايسترو» الموقعُ الأصعبُ في الموسيقا
تشرين- إدريس مراد:
المايسترو مجرد لفظ صدّرته إيطاليا إلى عالم الموسيقا، ومن حينها أصبح يشير إلى قائد الفرقة الموسيقية بدلاً من أن تقتصر دلالته على «الأستاذ» أو«المدرّس» بالمعنى الحرفي في اللغة الإيطالية، ومكانه من أهم مقومات الفرقة الموسيقية.. ودوره الخطر يتطلب مميزات وكفاءات شتى، لا تتأتى لكل من هبّ ودبّ وحمل في يده عصا قيادة الموسيقا، وهذه المميزات والكفاءات من الأهمية طبعاً بحيث يكتب فيها علماء الموسيقا وخبراؤها بحوثاً ومجلدات، منها كتاب «مختصر القيادة الموسيقية» باللغة الإنكليزية للمايسترو «هرمان نشرخن»، وكتب الدكتور حسين فوزي في مقدمة كتاب الموسيقا السيمفونية واصفاً مهمة المايسترو :«…وإذا كان واجب العازف هو إحياء روح مؤلف المقطوعة، وأن عليه أن يعطي الموسيقا ما كانت لها من نضرة حين ألفها صاحبها، فإن قائد الفرقة الموسيقية هو الآخر يعدّ عازفاً على آلة بشرية كبرى نسميها الأوركسترا. وعليه أن يترجم لغة المؤلف وأفكاره إلى أسلوب يفوق مقدرة العازف، وعليه أن يقوم بواجبه في المحافظة على تضامن جميع الآلات لتحديد نوع التأثير المطلوب…». ويذهب دوره أكثر من هذا، ولإبراز ذلك التأثير في مختلف أجزاء المقطوعة الموسيقية مع إظهار ما فيها من توازن وتناسب نغمي على نحو واضح في تراكيب العبارات والجمل الموسيقية، وعليه بعد ذلك أن يضع النوتة في رأسه لا أن يضع رأسه في النوتة.. عليه أن يندمج مع المجموعة بروحه ويوحي إليها بإشاراته، وهذا يذكرني بمقولة «كرستيان دارانتون» خلال كتابه «أنت والموسيقا» إذ كتب: «إن قائد الموسيقا هو عقل الفرقة الموسيقية، وأنه لازم لها لزوم السائق للقاطرة، وأنه مهم أهمية الجوكى لخيل السباق..»
السياق التاريخي
يعتقد البعض أن المعنى الفعلي لقائد الفرقة بدأ من القرن السابع عشر، وأصبح من المألوف في مسارح باريس ولندن أن يقف أمام فرقة الموسيقا قائد في يده عصا وفي الأخرى مدونة موسيقية ويأخذ يدق بعصاه على خشب مقعده، ما لم يتحمله العازفون ولا المستمعون، وكان لابد من حل.. وفي سنة 1687 راق لأحد القادة الموسيقيين وهو الفرنسي «لولي» أن يستبدل بعصاه هراوة غليظة تملأ العين وفي نهايتها قطعة حديدية ليدق به الأرض فيحفظ وحدة الإيقاع اللحني، وذات مرة أخذ يدق الأرض بعصاه أمام الفرقة الموسيقية وفي ذروة اندماجه ضرب قدمه بدلاً من الأرض، وأصيب بجرح كبير، وتقيحت إصابته، ومات بعد فترة وجيزة، بعد موت «لولي» رأى قادة الموسيقا أن يتخذوا هذه العصا التقليدية الرشيقة وذلك الزي المعروف، وفي بداية القرن التاسع عشر أصبح عرفاً أن يختص شخص بقيادة الأوركسترا من دون أن يقوم بالعزف أثناء العرض على آلة موسيقية.
أول قائد أوركسترا بشكله الحالي
ويعدّ «مندلسون» هو أول قائد أوركسترا استخدم عصا خشبية دقيقة للمحافظة على الإيقاع، وهو التقليد المتبع حتى أيامنا هذه، وإن وجد قادة أوركسترا كبار لا يقومون باستخدام هذه العصا مثل بيير بوليز وديمتري ميتروبولوس.
أما هيكتور برليوز وريتشارد فاغنر فكانا أيضاً من أوائل قادة الأوركسترا، وقد كتبوا نصوصاً تتحدث عن هذه المادة، ويعدّ «برليوز» أول قائد أوركسترا متميز، أما فاغنر فقد كان الشخص الذي غيّر دور قائد الأوركسترا من شخص مسؤول عن توقيت أداء الأدوار والمحافظة على الإيقاع إلى شخص يقوم بإضفاء ترجمة شخصية للمقطوعة.
تعتمد قيادة الأوركسترا على التواصل الفني بين مؤديّ هذا العمل، ولا توجد قواعد حصرية تقضي بصحة طريقة القيادة هذه أو تلك، ويمكننا أن نجد تنوعاً كبيراً في أساليب القيادة، لكن يمكن تلخيص مهمات قائد الأوركسترا في تحديد الإيقاع وإعطاء الإشارة للعازفين بحلول دورهم والسيطرة على الصوت الصادرعن المجموعة، إضافة إلى دراسة دقيقة لعناصر التعبير الموسيقي للمقطوعة المؤداة كالسرعة وتغيراتها، والتباين الصوتي، ووضوح تقنيات العزف.. وتالياً إيصال هذه المعلومات إلى المجموعة.
وظائف أخرى
يقوم قائد الأوركسترا بتوضيح النبض بشكل عام بيده اليمنى مع العصا أو من دونها، إذ تقوم اليد برسم أشكال متعارف عليها في الهواء تتعلق بمقياس المقطوعة، ويقوم بعض قادة الأوركسترا باستخدام يديه الاثنتين لتوضيح هذه الأشكال، إذ تشكل حركة اليد اليسرى انعكاساً لليد اليمنى. لكن وبالنسبة لأغلبية قادة الأوركسترا هي حركة يفضل تجنبها، والبعض الآخر يراها حركة ممنوعة، ويعدّون أن مهمة اليد الأخرى هي إعطاء إشارات الدخول، وتوضيح التعابير الموسيقية والجمل وغيرها من العناصر المكونة للعمل الموسيقي.
ويمكن لقائد الأوركسترا استخدام وسائل أخرى لمساعدة العازفين كالتنفس معهم أو عن طريق نظرة عين سريعة.
اختصاص معقّد
من هنا نستنتج أن قيادة الأوركسترا هي اختصاص معقد، ولاسيما الأوركسترا تطورت من ضابط إيقاع إلى مخرج للعمل الموسيقي. فعلى قائد الأوركسترا أن يكون على معرفة متعمقة بالمدونة الموسيقية ليتمكن من تصحيح الأخطاء التي يمكن لموسيقيي الفرقة الوقوع فيها وخلق تصور للألوان الصوتية أي الجمل الموسيقية المختلفة ضمن اللحن التي يريدها في المقطوعة من دون المساس بأفكار المؤلف وأسلوب عصره، إذ إنه لن يكون مقنعاً بأداء مقطوعة من العصر الرومانسي مثلاً بأسلوب وصوت العصر الكلاسيكي.
أساليب مختلفة
إضافة إلى المعرفة الموسيقية يجب أن يتمتع قائد الأوركسترا بقدرة التواصل الإنساني الفني مع الموسيقيين لنقل أفكاره وتصوراته الموسيقية إليهم، ويختلف أسلوب عمل كل قائد أوركسترا عن غيره، فهناك من يشرح ما يريد في بداية العمل ثم يقوم بإيقاف الأوركسترا بشكل مستمر لتصحيح الأخطاء، وهناك من يقتصد في الكلام ويعتمد على يديه وتعابير وجهه لتوضيح ما يريد من الفرقة، وهناك فئة من قادة الأوركسترا تقوم بأداء المقطوعة من البداية إلى النهاية عدة مرات، وفي كل مرة تقل الأخطاء، ومن ثم يوجه بعض الملاحظات التي يراها ضرورية ويعود إلى تكرار المقطوعة مرات عدة. أما الفئة الأخرى، فتقوم باختيار المقاطع الصعبة تقنياً أو موسيقياً للعمل عليها بتروٍّ ومن ثم تربط هذه المقاطع بعضها مع بعض ليكتمل الشكل النهائي للمقطوعة، وهناك قادة أوركسترا يتمتعون بصبر وهدوء أعصاب مقابل قادة آخرين مشهورين بطباعهم الحادة.