الحياة الاجتماعية في حلب ضحية الحرب والواقع المعيشي الصعب
تشرين – رحاب الإبراهيم:
لم تترك الحرب بسنواتها الطويلة بصماتها السوداء على الواقع المعيشي والاقتصادي فقط، فتأثيرها على الحياة الاجتماعية لا يقلّ خطورة وثقلاً، وخصوصاً لجهة اختراقها وكسرها عادات ومفاهيم كانت “حامية” للأسرة ونظامها “المقدس”، حيث ارتفعت معدلات الطلاق لأتفه الأسباب بعد ما كان مبغوضاً ويصل حدّ “تحريمه” اجتماعياً، ويقابل ذلك صعوبة في تسيير أمور الزواج من جراء غلاء تكلفة دخول القفص الذهبي، وما ينجم عن ذلك من تداعيات لا تحمد عقباها على كل الصعد.
“تشرين” التقت القاضي الشرعي الأول في حلب المستشار نادر أحمد كيده، للحديث عن بعض القضايا الاجتماعية كالزواج والطلاق وتعديل المهور وغيرها، حيث أكد أنه رغم الظروف المعيشية والأوضاع الاقتصادية الصعبة لا تزال معدلات الزواج جيدة في مدينة حلب، إذا تتراوح بين 950 إلى 1200 حالة كل شهر.
القاضي الشرعي في حلب: معدلات الزواج لا تزال جيدة ونسب الطلاق مرتفعة
وعن وجود حالات لزواج سوريات من حلب من شبان من جنسيات عربية وخاصة في ظل قلة عدد الذكور في المجتمع، بيّن أن القانون السوري لم يمنع زواج السورية من غير السوري، فهناك حالات عديدة لمثل هذا الزواج لكن اشترط اتحاد الدين، علماً أنه يحق للمسلم الزواج من المسيحية أو اليهودية “الكتابية” ولا يصح العكس، إذ يشترط دخول الإسلام لمن أراد الزواج بمسلمة، لافتاً إلى تسجيل قرابة خمس حالات في السنة لشباب أشهروا إسلامهم وتزوجوا من مسلمات، فلا يوجد إشكال في ذلك إطلاقاً.
وبالمقابل أوضح القاضي كيده عدم وجود أي حالة لزواج سوريات في حلب من أجنبي ما لم يتحقق شرط اتحاد الدين، فالقانون السوري لم يقرّ الزواج المدني حتى الآن، علماً أنه قدم إلى المحكمة الشرعية حالات طلباً للزواج المدني لكن تم إخبارهم أنه لا يصح قانوناً ولا شرعاً.
“تيسير” تعدد الزوجات
قبل الحرب كان تعدد الزوجات قائماً، لكن ارتفعت نسبته خلال سنواتها نتيجة ارتفاع عدد الإناث فالبعض يعدّه حلاً لهذه المشكلة، وهنا يوضح القاضي كيده أن ضحايا الحرب تكون أكبر عند الذكور، الذين تناقص عددهم بسبب الهجرة أيضاً، وهذا ما تسبب في زيادة عدد الإناث ومنهن اليتامى، وهذه الحالة عالجها القرآن الكريم في سورة النساء من خلال الآية: “فإن خفتم ألّا تقسطوا في اليتامى.. فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع، وإن خفتم ألّا تعدلوا فواحدة”، حيث حضت هذه الآية الكريمة على الاعتناء بالفتيات اليتامى، وفي حال تعذر ذلك يمكن الزواج بهن، بالتالي يعد اليتم السبب الرئيس لتعدد الزوجات، الذي يشترط قدرة الزوج على الإنفاق ووجود مسوغات موضوعية أخرى كمرض الزوجة الأولى أو عدم قدرتها على الإنجاب أو وجود نزاع قضائي بينهما، علماً أن الزواج من زوجة ثانية لا تشترط موافقة الأولى كما يشاع عرفاً.
قدوم حالات إلى المحكمة الشرعية بحلب طلباً للزواج المدني
ولفت القاضي كيده إلى أنه في بعض الحالات قد تضطر المحكمة إلى تثبت الزواج إذا كان العقد عرفياً، حتى لو كان الزوج غير مقتدر مادياً، مبيناً أنه مع ازدياد عدد الإناث لم تعد المحكمة تركز على المسوغات السابقة للزواج الثاني تيسيراً له، الذي يعد حلاً للقضاء على مشكلة تأخر الإناث في الزواج سواء بسبب ظروف الحرب أو رغبة بإكمال دراستهن، مشيراً إلى أنه ضد مصطلح “العنوسة”، الذي يجرح مشاعر المرأة، ففي رأيه يجب ألّا تنعت فتاة تأخرت في الزواج رغبة في إكمال دراستها بهذه الصفة، فحتماً بعد إتمام تحصيلها العلمي تطمح للاقتران بزوج يناسبها علماً ونضجاً.
المجتمع يفرض نفسه ..؟!
وعن كيفية تعامل المحكمة الشرعية مع زواج القاصرات تحت سن 18 سنة حسب قانون الأحوال الشخصية، بين القاضي كيده وجود حالات تفرض نفسها على المحكمة، فمثلاً يوجد مادة في القانون تقول: إذا ادعى المراهق والمراهقة الذين أتموا الخامسة عشرة قدرتهم على الزواج، ووجد القاضي أن أجسامهن قابلة للزواج يمكن الإذن بالزواج، إذا كان العقد خاطباً ومخطوبة وبحضور وليها “والداها أو جدها” حصراً، ولكن إذا كان العقد عرفياً فلا خيار للمحكمة سوى التثبت، كما أنه في حال وجود حالة زواج لفتاة من دون الخامسة عشرة وإنجابها طفلاً، تقوم المحكمة بتثبت الزواج مع نسب الولد إلى والديه.
المحكمة تتغاضى عن مسوغات الزواج الثاني تيسيراً له
وشدد القاضي كيده على أن المجتمع يفرض نفسه أحياناً على المحكمة، التي قد تسجل حالات لا يجيزها القانون كتثبت الزواج دون الخامسة عشرة من العمر، حرصاً على حقوق الأم والأولاد.
نسب طلاق مرتفعة
بمقابل حالات الزواج التي تعد جيدة في مدينة حلب، هناك ارتفاع في معدلات الطلاق في حلب، حيث تقارب، حسب القاضي الشرعي الأول في حلب، الثلث نسبة إلى حالات الزواج، وهي نسبة مرتفعة، لكن يخففها ارتفاع حالات الزواج، فمقابل كل 3-4 حالات هناك حالة طلاق واحدة، مرجعاً ارتفاع أسباب الطلاق إلى سوء الاختيار، وبناء الزواج على أسس وقواعد غير صحيحة كالبحث عن المال والجمال فقط، وقلة الوعي بين الزوجين، وتدخل الأهل السلبي وخاصة عند الزواج المبكر، ما يؤدي إلى حدوث الطلاق بسرعة.
زواج النت بقصد السفر سبب رئيس في ارتفاع نسب الطلاق
وبيّن القاضي كيده أن زواج النت بغية السفر، والذي انتشر خلال الفترة الماضية، يعد سبباً مباشراً لارتفاع نسبة الطلاق، حيث يُبرم عقد عرفي عبر الإنترنت، وهو ما لم يقرّه القانون حتى الآن، لكن المحكمة ملزمة بتثبت ذاك الزواج لأنه حق من الله، وبعد فترة للأسف يحصل خلاف نتيجة عدم معرفة كلا الطرفين بالآخر، ويحصل الطلاق مع أن الفتاة لا تزال عزباء، وبناء عليه تسجل مطلقة قبل الدخول، وقد تعود وتقع بالمطب ذاته لكونها تبحث عن فرصة للسفر، مشيراً إلى أن الفتيات في أعمار صغيرة وكبيرة قد يتعرضن للموقف الصعب ذاته، فهذه الحالات في ازدياد ومطروقة بشكل كبير في المحكمة الشرعية.
بسبب “طبخة”..؟!
وفيما إذا كان الوضع المعيشي الصعب ترك تأثيره على ارتفاع حالات الطلاق، يؤكد القاضي الشرعي بحلب تأثيره السلبي على الحياة الزوجية، وخاصة بين الأزواج الذين لهم وقت طويل مع بعض ولهم أولاد، فعدم مقدرة الزوج على الإنفاق على أسرته يؤدي إلى الطلاق، حيث وردت حالات عديدة إلى المحكمة بسبب ذلك، فمثلاً رفعت زوجة دعوى تفريق على زوجها من جراء عدم قدرته على تأمين الطعام لأولاده، وعند مراجعة الزوج أكد أنه أحضر كل مستلزمات الطبخة إلّا الزيت بسبب دخله الضعيف، مشدداً على أن ذلك أصبح واقعاً معيشاً يتكرر بسبب الأزمة الاقتصادية، معتبراً أن الحل يكمن بالصبر وليس الطلاق وخاصة إذا كان هناك أولاد.
نسبة جيدة من الزوجات طالبن بتعديل مهورهن حسب القيمة الشرائية الرائجة
وبيّن القاضي كيده أن أكثر حالات طلاق أثرت فيه هي طلاق زوجين سوريين مقيمين في ألمانيا فوق الخمسين عاماً من العمر، حيث اتفقا على الطلاق بغية تحصيل الزوجة أرقاماً مالية كبيرة تقدمها الحكومة الألمانية للزوجة عند الطلاق، مع إن الزوج يعد ميسور الحال ولديه أملاك كثيرة في سورية، وبناء عليه اتفقا على مخالعة رضائية وحصل طلاق “بينونة صغرى” بحيث لا يصح الزواج منها ثانية إلّا بعقد جديد، لكن بعد انتهاء إجراءات الطلاق في سورية، توفي الزوج وحرمت الزوجة من الميراث، فكان الجزاء من جنس العمل، مستغرباً وصول الأمور إلى حدِّ التفريط بالعشرة الزوجية من أجل حفنة من المال مع إنهم يملكون منه الكثير.
كي لا تصبح عرفاً ..؟!
رغم الضائقة المعيشية نسمع عن طلب مهور مرتفعة من الفتيات أو الأهل، ما يؤدي إلى عزوف الشباب عن الزواج، وهنا يوضح القاضي الشرعي الأول بحلب هذه النقطة بتأكيده أن القانون لم يضع حداً أعلى أو أقل للمهور، حيث ترك ذلك لإرادة الزوجين إلّا في حال خالف ذلك القانون، عندها يتدخل القاضي، مشيراً إلى وجود قاعدة فقهية تقول كلما سهلنا الحلال صعبنا الحرام والعكس، وكلّما سهلنا المهور اتسعت دائرة الزواج، مشيراً إلى طلب تسجيل مهور مرتفعة أعلاها مليار ليرة (مقدم) ومثلها (مؤخر) مع إن الشاب ليس مقتدراً مادياً، لكنه يحب الفتاة التي يرغب الزواج بها، إضافة إلى قدوم حالة أخرى لعسكري مجند طلب تسجيل ألفي ليرة ذهبية (مقدم) ومثلها (مؤخر)، وبعد تدخل المحكمة وتبيان خطورة وضع مثل هذه المهور العالية بالتنفيذ لجهة وضع الزوج في السجن، في حال عدم القدرة على دفع المهور عند حصول أي خلاف، كما أن المحكمة حريصة على عدم تسجيل مثل هذه المهور المرتفعة حتى لا تصبح عرفاً سائداً في المجتمع، بالتالي فإنّ تدخل المحكمة يكون إيجابياً في مثل هذه الحالات غير الطبيعية.
الواقع المعيشي الصعب أثر في الحياة الزوجية
وبالمقابل بين القاضي كيده أن أقل مهر سجلته المحكمة الشرعية هو ليرة سورية واحدة (مقدم) ومثلها (مؤخر) لزوجين جامعيين، اتفقا على هذا المهر المنخفض برضا الأهل.
حسب القوة الشرائية ..؟!
وعن تعديل المهور بعد تعديل المادة 54 في قانون الأحوال الشخصية الصادر عام 2019 من جراء التضخم الحاصل، أشار القاضي الشرعي الأول بحلب إلى وجود نسبة جيدة من الزوجات اللواتي طالبن بتعديل مهورهن بناء على هذه المادة، فالزوجة لا تتنازل عند الطلاق عن حقها المصون شرعاً وقانوناً، مشيراً إلى أنه بناء على التعديل يمكن رفع مهر الزوجة حسب القوة الشرائية بتاريخ العقد على ألّا يتجاوز مهر مثيلاتها من النساء حالياً.
ت- صهيب عمراية