«فريد اسمندر» يُترجم لنا حكايا من رحلته في عالم الميثوبيا (صناعة الأسطورة)
تشرين- راوية زاهر:
في عالم خاصٍ من الغموض والتشويق أبحرنا برفقة مختارات قصصية مأخوذة من روائع الأدب الإنكليزي.
وهي من تأليف الكاتبين «شيريدان لوفانو» و«ويلكي كولينز» ومن ترجمة فريد اسمندر.. الكتاب الصادر عن الهيئة العامة السورية للكتاب هو مجموعة قصصية مؤلفة من أربع قصص، مناصفةً بين الكاتبين، تغلب على المجموعة سمة الغموض والمفاجأة والتشويق مع لمسات من الرومانسية والرّعب.
إذ تناول الكتاب أسطورةَ مصاصي الدماء بأسلوب درامي مقنع، والأماكن الواسعة كالقلاع والقصور المهجورة وخفاياها المرعبة عند شيريدان لوفانو، ولـ «ويلكي كولينز» قصتان إحداهما : تتعلق بالأعراف المتعلقة بكاهن الكنيسة وما يترتب عليه من عقوبات قاسية، إذا ما أسرّ بما يسمعه في غرفة اعتراف التائبين، (مرجل الزيت).. حتى لو تساوى الضحية بالمجرم، وقد كان مجبراً تحت تأثير ووعيد القتل والرّمي بالزيت المغلي من قبل فتية قُتل والدهم في ظروف غامضة، والقاتل اعترف للكاهن في غرفة الاعتراف، فما كان منهم إلا تهديد الكاهن وانتزاع اسم القاتل بالقوة من دون أن يعرفوا ما ينتظره، وما ينتظر الكاهن من عقاب يفوق عقاب المجرم ذاته.
وأخرى تحكي قصة قبطانٍ وسيمٍ، استسلم قومٌ في جزيرة نائية للخرافات وكان قد قصدها لإحضار خشب الصندل، ورغم تحذيره من الاقتراب من الجزيرة المقدسة إلا أن وجود حورية سرقت لبّه جعلته يغامر خفية بالدخول، ومن دون سابق إنذار تتحقق النبوءة التي تحذّر من دخول شيطان أنسي إلى الجزيرة المقدسة، و بدخول القبطان إليها يصيب الجزيرة بركان يودي بحياة كاهنها وابنته المعزولين، لينذرَ نفسه للحزن والصمت والكتب طوال الحياة نافراً من النساء، وحاقداً على البحر.
والجدير ذكره أنّ الكاتبين من أبرز الكتّاب الذين تناولوا هذا النّمط من الفن القصصي.. فـ«كارميلا»هذه القصة الأولى المترجمة، بشخصيات قليلة، تمثلت بالفتاة ابنة مالك القصر وأبيها وبعض الخدم، والضيوف الذين توافدوا إلى القصر متمثلين بالضيفة المخادعة وهي «كارميلا» مصاصة الدماء، والجنرال صديق العائلة الذي كشف حكاية الصديقة القاتلة.
انطوت القصة على أحداث مهمة وشائقة، غامضة ومرعبة، وفيها العديد من المشاهد الرومانسية الباعثة على الّريبة أحياناً، لتقودنا إلى أول ما نشره جون بوليدوري عام ١٨١٩م في قصته عن مصاصي الدّماء، كذلك رواية دراكولا عام ١٨٩٧م لمؤلفها «برام ستوكر» والتي لايزال يتذكرها الناس باعتبارها رواية مثالية عن مصاصي الدما، وقد قدمت الأساس لأسطورة مصاصي الدماء.. تخلل القصة عنصر الوصف كغيرها من قصص الكتاب كوسيلة من فنون الاتصال اللغوي، والذي استخدم لتصوير المشاهد والشخصيات والتعبير عن المواقف والانفعالات الداخلية والمشاعر بكل براعة.
فالوصف الدقيق يعرفنا بالشخصية، وما يرغب الكاتب في إيصاله إلى القارئ، وكأن القارئ أمام مشهدية عينية مباشرة.. أضف للحوار الذي تخلّل القصص كان مرافقاً للوصف وداعماً له، إذ إنه عكس سمات الشخصية النفسية وطريقتها في التعبيرعن مواقفها وأحاسيسها، فكان الحوار من أهم أساليب التعبير والأداء.. كالحوارات التي قامت بين والد بطلة القصة وأم كارميلا، وما شابها من غموض بقي خافياً على شخصيات القصة والمتلقي حتى النهاية.. وكذلك الحوارات بين كارميلا وفتاة القصر، وما كشفته عن ميول كارميلا الغريبة، أضف لمشهدية الوخزتين الزرقاوين تحت حنجرة الضحية والناتجتين عن مص كارميلا دماء ابنة القصر.. وفي النهاية يتم الكشف عن هوية مصاصة الدماء واسمها المستعار «ميركالا» لضرورة التخفي، وكذلك الحوارات التي دارت بين «اللورد غلنفولن» وزوجته الأميرة التي حملها إلى قصر مملوء بالألغاز والأشباح، ومحاولة القتل التي تعرضت لها وإهراق دمها والاستسلام لعالم ميثولوجي مملوء بالغموض، إذ تنتهي القصة بتحوّل الشبح إلى حقيقة ومحاكمته ومن ثمّ انتحاراللورد.
وعالم الوصف البديع يعيدنا إلى أزمنة غابرة، تعرّفنا طريقة البناء ذات الطراز القوطي المتميّز بخصوصيته المعمارية.. ففي قصة«فصل في تاريخ أسرة من تايرون».. بلغ الوصف درجة عالية من الجمال المتقن الذي يخدم تقنية السرد القصصي من قبيل:
(هناك تقع القلعة المسحورة، ويشير اللورد إلى مساحة مستوية كبيرة متداخلة بين تلتين جميلتين ترتفعان حول البحيرة، هناك غابة كثيفة من أشجار السنديان القزمة وأشجار البتولا والبندق تحفّ بهذه التلال وتكسو شطآن البحيرة).
ولايمكنك العبور من دون التوقف بإعجاب عند قبطان السفينة في قصة (القبطان والحورية) تلك الشخصية المتفردة والتي أحاطها الكاتب بسرده الوصفي، إذ لم يكن في خضمّ سرده يقصد الترف اللفظي وإنما الوصول إلى عمق الشخصية، والولوج في خفاياها، فالوصف كما أسلفنا خير وسيلة للكشف عن حقائق الشخصية بأسلوب لفظي مميز، ويمكننا الوقوف قليلاً مع محطة سردية تخصّ القبطان: «كان القبطان موضع ثقة أصحاب الشحنات، الذين عرفوا فيه رجلاً موهوباً، ويعنى بتثقيف نفسه في ساعات فراغه في أثناء أسفاره البحرية.. لقد نذر نفسه قلباً وروحاً لواجباته المهنية، وكان قارئاً مثابراً، إضافة إلى إتقانه لغات عدة.. مقابل هذه الخصال التي يتحلى بها كان له حصة من العيوب، فمثلاً كان مفرط الإحساس بوسامته – بشعره الكستنائي وشاربيه، وعينيه الزرقاوين الجميلتين، وبشرته البيضاءالناعمة.»
فهذا الوصف الداخلي والخارجي للشخصية ساهم في فهمنا مقدرة القبطان على المغامرة بالدخول إلى عالم الحورية التي تسكن الجزيرة المقدسة وقدرته على سرقة قلبها رغم حبسها عن الناس وسيطرة حكاية النبوءة على وجودها، وكذلك ما ميّز قصة «القبطان والحورية»؛ تقنية الخطف خلفاً، والتي كانت على لسان صديقه وهو خادم النسوة المعترضات على عدم زواجه واحتقاره للبحر.
فالمجموعة بكليتها ساحرة وبكل المقاييس لما حملته من براعة المترجم وامتلاكه لغة قوية تؤكد تمكنه من أدواته، وكذلك مقدرته على نقل كل هذا الجمال المنوّع والمتشعب ما بين تشويق ورعب ودهشة ورومانسية إلى المتلقي بأسلوبٍ شائق ولطيف.