الـ «سخرية» الخالية من العمق.. وسهامُ التجهّم التي أصابت الجميعَ..!
تشرين- علي الرّاعي:
الهجاء من دون شك هو الجذر الأقدم لفن السخرية في تراثنا الثقافي الذي بدأ أولاً في الشعر، ثم انتقل إلى إطاره الثقافي الأوسع على يد الهازل الكبير الجاحظ الذي يمكن عدّ كتابه «البخلاء» كتاباً اختصاصياً في فنون الهزل الاجتماعية، وتلا الجاحظ أبو حيان التوحيدي، كما تندرج المؤلفات النثرية لأبي العلاء المعري أيضاً في إطار السخرية التراثية، أي إن فنّ القصة القصيرة الساخرة بشكله المعاصر -على وصف الدكتور صلاح صالح- له جذره الواضح العميق في تراثنا النثري.
الساحة المتجهّمة
ورغم كل هذا الإرث الساخر، فإن ثمة ظاهرة اليوم، ليست سورية فحسب، وقد كنا نخالها كذلك، بل تكاد تكون عربية بامتياز، وهي خلو الساحة الأدبية، وحتى في مجال الفنون البصرية على أنواعها وتنوعها، من السخرية الحقيقية، يُعادل ذلك على مستوى التلقي، أنه لم يعد ثمة متلقٍ لديه القابلية لأن يتقبل السخرية، أو حتى لا يريد أن يضحك، بل لا يريد حتى أن يبتسم، وكأن سهام التجهم قد أصابت الجميع، ولم يسلم منها أحد، حتى إنهم في مصر، وبوفاة «الولد الشقي» كما كانوا يلقبون الكاتب محمود السعدني، ينظرون إلى ساحة السخرية التي طالما تميزت بها مصر، على أنها قد حُسمت لمصلحة الكوميديا السوداء، فـ «القارئ الذي كان يستغرق في الضحك، يشعر اليوم بالانقباض بعد قراءة كتّاب اليوم الذين تقطر المرارة من أقلامهم وينتهجون نهج الكوميديا السوداء» شيء ما يشبه الكربلائية العامة، انتفت خلالها حتى البسمة.
معادل الواقع
هل يأتي الأمر لأن الأدب والفنون هي المعادل لما هو واقع في الحياة، وهي «الترمومتر» لقياس مزاج الحالة الإنسانية التي يعيشها «المواطن» في العالم العربي، أم ثمة إفلاس في هذا الشكل الإبداعي، ولاسيما بعد «تقاعد» من بدؤوا في أشكال التعبير هذه، أو بعد وفاتهم، ومن ثم حُكم على من جاء بعدهم، إما بتقليدهم بشكلٍ سيئ، أو الذهاب بالسخرية باتجاهاتٍ أخرى أبعدتها عن السخرية مئات الكيلو مترات، وإن لم يكن كل من تسمى فيما مضى كاتباً ساخراً كان كذلك، حتى لا نقع بالحنين إلى الوهم، كما يقع البعض في هذا المرض المزمن إذ يطلقون على كل ما هو قديم بـ«الزمن الجميل» مع أنه قد يكون في منتهى القبح، أو لأنه جاء إلى الساحة على فراغ، ولم يكن «في الميدان غير زيدان» ومن ثم كان ما أجمل «عطساته» إن عطس، فكيف إن كتب أو مثّل، أو إن هناك كتّاباً كثراً لكن لم ينتبه إليهم أحد، وهم بدورهم استطابوا العيش في الظل؟!
من دون وجه حق
فالكثيرون اليوم يرون أنه لم يأت في سورية كاتب ساخر بحجم حسيب كيالي على سبيل المثال، وفي مصر هل ثمة من قارب عبد القادر المازني؟ هذا في الأدب، وتحديداً في القصة القصيرة التي يبدو أنها حملت عبء الهجاء عن الشعر كأحد أغراضه المنقرضة، صحيح أن الكثير من الكتّاب الشباب كان لدى العديد منهم بعض «الالتماعات» في الكتابة الساخرة، غير أن من صفاتها أنها كانت غير مستدامة، وأحياناً كبيضة الديك، ومن ثم كان هذا الوقوع الكبير في «التعجيق والاستظراف» واللعب بالألفاظ على أنها كتابة ساخرة، ناهيك بالعشرات الذين «يكرسون أو كرسوا أنفسهم» على أنهم كتّاب ساخرون من دون وجه حق، حتى إن من لم ير فيهم هذا الأمر عُدّ مارقاً، أو لأن الكوميديا والسخرية، والكاريكاتير كفنون من نوع خاص، تحتاج إلى فضاءات واسعة من الحرية يضيق بها العالم العربي؟!
أما في الدراما والفنون البصرية بشكلٍ عام، فقد توفر الكثير من الفنانين الذين أثبتوا جدارة في الكوميديا، في بعض المشاهد الدرامية- تلفزيون، مسرح، وسينما- ربما تفوقوا من خلالها على من سبقوهم ولاسيما لجهة الحرفية العالية التي قدموها، غير أنه لسببٍ أو لآخر لم يستمروا، ومن ثم كان هذا اليباس في ساحة الكوميديا، أما في مجال الكاريكاتير، وكأن الأمر توقف عند بضعة أسماء لا تتعدى أصابع اليد الواحدة.؟!
و.. من ثمَّ كان أن حصلنا على «سخرية» ربما، لكنها بالتأكيد خالية من العمق، وربما كان هذا سبب «مقتلها» عند الكثيرين، وهو النظر إليها على أنها فنّ، أو إبداع سطحي.!