منذ عقدين من الزمن، جلستُ في عاصمةٍ عربية على هامش ملتقى أدباء في مقهى يعج بالضجيج، وكان من أمسك بالحديث أستاذ جامعي بجواره زوجتُه الشابة، التي قدّموها إليّ أنها روائية، والزوج يضع على الطاولة نسخةً من روايتها بالإنكليزية، طُبعَت لتوّها لأنها ستُدرّس في الجامعة الأمريكية في عاصمة البلد التي أزورها زيارة قصيرة، وبينما انهمك الحضور في الحديث عن الرواية المذهلة وإذا ما كانت قد تُرجمَت بأمانة ولم تفقد بهاءها الأدبي بحيث تصل بروحها ونصّها إلى القارئ بلغة أخرى، فهمتُ أنها لا تتعدى المئة صفحة وأن عنوانها “الباذنجانة…” وآخذت نفسي على الجهل الذي أعانيه بحيث انقطعَت قراءاتي مع روائيي البلد الكبار وما عدتُ على اطّلاع بالأسماء المبهرة التي تابعت مسيرتَهم، وفي حين واصل الحضور الحديث عن ترشيح الرواية لعدة جوائز مهمة، زوّدني الصديق الذي رافقتُه بنسخته العربية التي يحتفظ بها في حقيبته!
قرأت الرواية خلال الليل الذي خلا من الضجيج بحكم النوافذ مزدوِجة الزجاج، فأخذتني بسردٍ بسيط، سلْس إلى عوالم شابة لا تثق بجمالها ثم قادتني بالتداعيات إلى كاتبة يابانية مجايلة وُلدَت باسم “ماهوكو” لكنها بدّلت اسمها إلى “بانانا” وشقّت به طريقها إلى المجد الأدبي والجوائز والحضور، و”البانان” هو الموز و”ماهوكو” كانت مفتونةً بزهر الموز الأحمر على طريقة الكاتبة العربية التي قاربَت الباذنجان الأزرق بحسب البيئة وكلتاهما ابنتا بيئة أدبية أنتجت روائع الروايات والقصص، لكن لم أعثر في روايتهما (اليابانية كتبت رواية بعنوان “المطبخ”) على البناء الروائي بأي تصنيفٍ من تصنيفاته، بل كانت الروايتان المتقاربتان في عديد الصفحات، أشبهَ بالخواطر الأنثوية التي تخرمش الستائر المضروبة حولها وما تَني تستخدم قليلاً من الشعر وكثيراً من الرفض الاجتماعي الذي تُشيعه، من بعيد، المنظمات الدولية التي تفكّ الحصار عن “النسوية” وهي نفسها لم تعاصر “فيرجينيا وولف” ولا “آسيا جبار” أو “أناييس نن” و”لطيفة الزيّات” اللواتي أنجزن روايات، يُقال فيها وعنها روايات!
كانت تجربتي مع الباذنجانة والموزة منذ ما يقرب من عقدين من الزمن، ولم استبصر يومها هذا العصر الذي نعيشه من انفجار المعلومات إلى تشظي كل الفنون ورفع الأعمال الباهتة إلى الذُّرى، ليس بقوتها وقيمتها بل بالترويج لها عبر وسائل مرئية وأخرى مخفية فمن يعلم كيف مرّر الأستاذ الجامعيّ رواية زوجته الأولى لتكون من المقررات الأدبية لجامعة كبيرة؟ وكيف يكشف القارئ سرَّ الموزة اليابانية التي تنتمي إلى أب فيلسوف وشاعر؟ في هذا لا يُعوّل إلّا على الزمان وقدرته على الفرز، لأن حديقة الخضار لا يمكن أن تعيش وتستمرّ كغابة الأشجار، أيّاً كان نوع هذه الأشجار!
نهلة سوسو
123 المشاركات