عالمُ الكتب والحنينُ إلى المجهول!
تشرين- جواد ديوب:
مرّ اليوم العالمي للكتاب مؤخراً وربما لم يسمع الكثيرون من الكائنات الفيسبوكية وجهابذة الغوامض الإلكترونية الافتراضية وحتى ممن هم أهل الكتابة بعُدَدهم البلاغية وحشوات السيليكون الفكرية… لكن لنكن صريحين وواقعيين… هل علينا دائماً أن نخترع أعياداً وأياماً عالمية للتذكير بالأشياء الجوهرية في حياتنا بغص النظرعن تمظهراتها القديمة أو الحداثية؟ هل علينا دائماً أن نخوض حرب داحس والغبراء الفكرية لنثبت أهمية الكتاب عموماً بغض النظرعن شكله الورقي أو الإلكتروني؟ أيجب أن نلعن العوالم الافتراضية لأنها خبيثةٌ كلها وأن نغرق في نوستالجيا زائفة لزمن الورقيات؟ ومن قال إن التكنولوجيا خبيثةٌ كلُّها أو عدوةٌ وقاتلةٌ للأدب والمعرفة والعاطفة؟
فها أنا ذا أتشمَّمُ بشغفٍ رائحةَ الورق الأسمر المدموغ بأحرف رصاصِ الطباعة الرخيص في كتابٍ قديم أقتبسُ منه جملةً مهمة لـ«أنضّدها» هنا على جهاز الكمبيوتر؛ هذه الأداة السحرية القادمة من غوامض الخيال العلمي الذي بشّرنا به عمالقة الأدب أنفسهم حين كتبوا للأطفال قصصاً مدهشةً عن «مكناتٍ» عملاقة ستُدعى يوماً ما «كمبيوترات»، آلات على شكل صناديق عجائبية بإمكانها أن تحلّ لهم معضلاتهم العلمية والمعرفية بكبسة زر واحدة، واضعةً مئات المجلدات الورقية في مستودعات الماضي.
وها أنا، في الوقت نفسه، مع تأثير رائحة الورق المُسكرة أغوص أيضاً في «النت» بحثاً عن معلومةٍ سريعةٍ أو عن روابطَ إلكترونية لتوسيع مدى البحث الذي أعمل عليه، كأنني مع من أمثّله من جيلي، عالقون في برزخٍ انتقاليٍّ بين عالمين: عالمِ الورق الآيل إلى الزوال، وعالم التكنولوجيا المجهول الذي بدأ يغزو حتى أحلامنا وجيناتِ أطفالنا!
لكن السؤال يكمن من زاوية نظر أخرى: هل من المهم فعلاً إنْ نحن قرأنا من على شاشة إلكترونية تتراقص عليها الأحرف الرقمية وألوان الديجيتال أم إن فعلنا ذلك بكل العاطفة المتوهجة حين نقلّب كتاباً ورقياً سيصبح «لقيةً» نادرةً في المستقبل؟
والملاحظة الأكثر جدوى لا تكمنُ في «موت الكتاب الورقيّ» وركونه على رفّ الإهمال وتحت غبار الانتظار ليدٍ حنونة تقلّبه أو أيادٍ طائشةٍ تمزّقه وتُحرقه… بل تكمن فيما إذا كانت القراءة عموماً، وقراءة الأدب خصوصاً ستستمر في وقتٍ تعلن فيه حتى كبرياتُ دور النشر والصحف العالمية توقفها عن طباعة الورق مقابل تحقّق تلك النبوءة التي قالها يوماً ما مؤسّسُ «مايكروسوفت» بيل غيتس عن تحقيق رغبته في أن تسودَ شاشاتُ الكمبيوتر العالمَ «لإيقاف مجزرة صناعة الورق وقطع الغابات»!.
ربما لدى البعض منا حنينٌ موجع إلى زمن كنّا ننتظر فيه بلهفة كتاباً على شكل هديةٍ تجلب الفرح والعجائب وألغاز المستقبل محمولةً على صفحات ملونة بألوان قوس قزح، ننتظرها بكل صدق لا كما يفعل معظم أطفالنا اليوم إنْ أهداهم أحدٌ ما كتاباً يتقبلّونه على مضض وبسخرية واضحة مقلّلين من قيمته لاعنينَ صاحب الهدية وشاتمين حظّهم السيئ الذي جلب لهم مصيبةً بدلاً من جهاز موبايل هو هاتفٌ وكاميرا ومشغّل موسيقا ومخزن ألعابٍ إلكترونية في الوقت نفسه، وربما لديهم كل الحق في أنهم خُلقوا لزمانٍ غير زماننا، وما يصحّ الآن لم يكن ممكناً في أيام آبائهم، لكنهم بكل أسف فقدوا الإحساس بأهمية فكرة القراءة في حد ذاتها، فكرة أن لا غنى عن الكتاب ورقياً كان أم إلكترونياً مهما ارتقت بهم الثورة التكنولوجية وطيّرتهم إلى حدود غير المعقول.
وتبقى هناك أسئلةٌ هائمة في هذا الفضاء الافتراضي، فالأسئلة هي مفتاحٌ سحريٌّ لمغارات المعرفة المستعصية: إذ كيف كانت حياة البشرية ستكون لولا ما دوّنه البشر على رقوقهم أو صحفهم أو دفاترهم أو كمبيوتراتهم و«شاشات اللمس» خاصّتهم؟ لولا غواية الخلود التي همست لهم بها عفاريتُ الغرور، ولولا نرجسيّة أولئك الراغبين في نقش حكاياتهم على وجه التاريخ؟
وفي طرفة شخصية أحكي عن والدتي التي لا تعرف القراءة والكتابة ولا تعرف بالضبط ماذا أكتب من «خربشاتٍ» وطلاسمَ، وماذا أقرأ من كتب تتعثّر بها في كل مكان من غرفتي، في المكتبة وفوقها، بين ثيابي وفوق البراد وضمن «كنبايات» الصالون… لكنها تقول لي ما يشبه النبوءات: «ستجعلك هذه الكتب تفقد عقلك يا بني»! فأضحك، ولا أخبرها بأنني فعلاً أهذي في نومي حين أشاهد الكلمات تتحول إلى كائناتٍ خرافيةٍ، بأعين مكان الأنوف، وأنوفٍ تتوسط السرّة، وكيف تحاصرني أجساد نساء الروايات التي قرأتها كما لو أنني «كازانوفا» و«زوربا» والزير سالم… وكل العشاق في قلب رجل واحد!
هل هي إذاً الحكمة غير النهائيّةِ الأسرار للوجود البشري؟ أم هي لعنة المعرفة وضريبة اكتشاف الأبجديات وطرق الكتابة؟ أم هي حماقة العقل البشري المتغاوي، المتعجرف، المعتقدِ بأنه «العارفُ» وأن معرفته ستخلّده أبداً… ولن تخلّده أبداً؟!