مسرحُ الطفل في سورية.. فقيرٌ لكنْ جميل

تشرين- بديع صنيج:
رغم ما يعانيه مسرح الطفل في سورية، فإنه مازال قادراً على تحقيق المعادلة الصعبة، بين جماليات الأفكار وأساليب تنفيذها من جهة، والإمكانات الضئيلة المُسخَّرة لخدمته وخدمة العاملين فيه من جهة أخرى.. والمتابع لــ «مهرجان فرح الطفولة» الذي أقامته مديرية المسارح والموسيقا، وشهد مجموعة من العروض انتشرت في العديد من المحافظات السورية، سيلحظ إيماناً عميقاً لدى المشتغلين في مسرح الطفل بأنه قادر على بث الوعي ونشر الثقافة والتغيير بأسلوب محبب يناسب الفئات العمرية الصغيرة.
ومما أتيحت لنا متابعته كان عرض «حكايات» تأليف وإخراج محمد ناصر الشبلي، الذي استطاع منذ اللحظات الأولى كسر الجدار الرابع مع جمهور الأطفال في مسرح القباني، من خلال فرقة جوالة تحكي الحكايات بطرافة تستقطب متابعيها الصغار وتجذبهم بأساليبها المختلفة.
مرة من خلال الحكواتي (جسّده غسان الدبس) الذي يجلس على طرف الخشبة بطربوشه الأحمر وحيوية أسلوبه في سرد حكاية الطفلة عصفورة (رولا طهماز) التي تتصدى لرجل من القرية (عبد السلام البدوي) أثناء مشاهدته وهو يسعى لممارسة هوايته اصطياد العصافير عبر شبكته.. ورغم محاولاتها ثنيه عن ذلك، وإقناعه باختيار هواية أخرى، فإنه يرفض، فتضطر بمساعدة صديقتها (جسَّدتها لميس عباس) إلى إخافته، من خلال تقمُّص الصديقة شخصية الغول الذي سيأكله كما يرغب هو بأكل العصافير، وبهذه الحيلة استطاعتا أن تأخذا منه تعهداً بعدم التعرض للعصافير الجميلة.
وفي حكاية أخرى، يحملنا العرض عبر صندوق الدنيا الذي تديره السيدة الجميلة (لميس عباس) ويجذب إليه المتفرجين الصغار، حتى لو لم يمتلكوا ثمن تلك الفرجة، إلى قصة القروي (محمد ناصر الشبلي) الراغب في قطع شجرة كبيرة من منتصف الغابة وبناء منزل مكانها.. لكن القرد الذي يعيش بين أغصانها (جسّده وليد الدبس) رفض ذلك، وكلَّما هدَّده لفظياً، يقوم الحطّاب بتلفيق الأكاذيب أن ذاك القرد بات متوحشاً، فمرة شجّ رأسه بجوزة هند، وأخرى كسر يده، وثالثة كسر عنقه، ورغم تصديق أهالي القرية في البداية، وخاصة صاحب الأنف الذي لا يخطئ (سليمان قطان)، فإنهم اكتشفوا الكذبة، وعاقبوا فاعلها على سلوكه الشائن تجاه الأشجار.
أما الحكاية الثالثة فكانت من نصيب الجَدّ خفيف السمع الذي يروي لأحفاده الصغار قصة عازف الكمان الذي يلتقي حورية البحر الحزينة، لأن البشر يلوّثون المياه، فيسعى لإقناعهم بأهمية عدم هدر المياه العذبة، وضرورة عدم تلويث مياه البحر، ورغم الصعوبات التي يواجهها في ذلك، فإنه يتمكن في النهاية من تحقيق مبتغاه.. على بساطة الحكايات وطرحها المباشر، أضفى الاعتماد على تقنية المسرح داخل المسرح، حيوية كبيرة على أنماط الفرجة، وأساليب القول، إذ غُلِّفت بالإبهار، وشيء كبير من السِّحرية، المُعزَّزة مع حضور الممثلين اللافت والمُحبَّب، في تعاطيهم مع شخصياتهم، وفي قدرتهم على جذب الأطفال إلى مغزى الحكاية، وتحقيق تفاعلهم معها.. مرة عبر طرح الأسئلة، وأخرى من خلال إخفاء القرد عن عيون أهل القرية، وغير ذلك من رهافة في التعاطي مع خصوصية هذا الجمهور، سواء من قبل الممثلين الكبار بحركاتهم وأسلوبهم في الحديث، أو من جهة الطفلين «مراد النوري» و«ميار النوري» في أول تجاربهما المسرحية اللذين حققا حضوراً لافتاً بعفويتهما الآسرة، سواء بشخصية أبناء القرد، أو الحفيدين، أو الطفلين الفقيرين الراغبين في الفرجة على صندوق الدنيا.
وزاد من جماليات العرض حساسية إضاءة بسام حميدي للمواقف الدرامية المختلفة، مع الشاشة بخياراتها المبهجة في عمق الخشبة، والتي تحولت إلى خيال الظل، وأيضاً الأزياء التي صممها بحرفية عالية يوسف النوري، إذ بدت الشخصيات وكأنها خارجة من كتب الحكايات الجميلة، بمساعدة مكياج راما فليون.
وهناك موسيقا عيسى النجار التي عززت الدراما من دون أن تثقل كاهل العرض بصخب غير مبرر كما يحصل في الآونة الأخيرة ضمن كثير من مسرحيات الأطفال، إضافة إلى بساطة ديكور نسرين عوض وقدرته على تحقيق انتقالات سلسلة بين الأجواء الكثيرة التي حملتها المسرحية من الغابة إلى ساحة القرية ثم منزل العائلة وشاطئ البحر وغير ذلك.
بمعنى أن «حكايات» محمد ناصر الشبلي انتهجت أسلوباً مغايراً في الطرح، ما جعلها إلى جانب قدرتها التوعوية العالية، قادرة على أن تمتلك حيوية آسرة في القول وجاذبية مهمة لجمهور الأطفال وأهلهم طوال زمن العرض الذي امتد إلى خمس وأربعين دقيقة من المتعة الخالصة.
أما عرض «نهاية المخادع» الذي قُدِّم على خشبة مسرح العرائس، وهو موجه إلى الفئة العمرية الأولى بين 6 و 8 سنوات، فكان من إخراج نديم سليمان الذي استطاع نقل رؤية مُعدّ العرض عبد السلام بدوي بحيوية، خاصةً أن الإعداد ركَّز على مضمون مسرحية «خدعة الذئب» المشابهة تماماً لحكاية ليلى والذئب لكن من زاوية مختلفة تماماً، تناسب المستوى المعرفي لدى أطفال تلك الأعمار، لإيصال فكرة أن الغريزة الحيوانية لا يمكن أن

تتحول إلى حالة إنسانية. فكما أن الشر موجود فإن الخير كذلك، ولا يمكن للشر أن يتحول إلى خير أبداً، خاصةً أن الشرير ذا الطباع الحيوانية لا يستطيع إلا أن يتعامل بغرائزه، ومن دون وعي عقلاني لانعكاسات أفعاله، وكل ذلك من خلال حوارات لطيفة ومفارقات جميلة، وأيضاً عبر دمى وديكورات مميزة وموسيقا تخدم فكرة الصراع، إذ تضمنت نهاية المخادع حالة تربوية توعوية هدفها تعليم الأطفال ضرورة أن يكونوا حذرين مما يجهلونه، وألا يثقوا بالآخرين إلا بعد خوض تجارب معهم.
الممثل والمعد والمخرج في مسرح الطفل عبد السلام بدوي قال في تصريح خاص إن: «أبرز نقطة إيجابية في مسرح الطفل أننا مازلنا مستمرين فيه، رغم ما يعانيه من أزمات كثيرة».. وأوضح «نعاني أزمة نص حقيقية، فرغم وجود كتاب لمسرح الطفل،لكنهم لم يستطيعوا حتى الآن تدارك الفجوة بين تفكيرهم بالطفل، والمستوى الفكري الواقعي للطفل الآن، إذ يرون الطفولة من خلالهم كأشخاص واعين، وليس من خلال التغلغل في الفكر الطفولي، وهو ما يجعل النصوص في غربة».
وأضاف بدوي أن ضعف العامل الإنتاجي يلعب دوراً سلبياً كبيراً في مسرح الطفل، فمديرية المسارح سقفها محدود مادياً، وهو ما يصنع فجوة بين ما بات الأطفال يرونه ويوسع خيالهم من خلال التلفزيون والإنترنت وغيرهما، وبين ما يشاهدونه على خشبات المسرح، بمعنى أن الطفل بات يريد صورة حقيقية، وأن يحس بأن المادة التي تقدم له مسرحياً تتفوق على التلفزيون والإنترنت، وأن تكون هناك مصداقية أكثر، وهذا بحاجة إلى ميزانيات أكبر.
ومن أزمات مسرح الطفل أيضاً، كما يراها بدوي، الأزمة المالية الخاصة بالممثلين، إذ يقول إن العمل شهرين في مسرح الطفل لا يعادل أجرة مشهد واحد في التلفزيون، وهذا مخجل، وأدى الوضع المادي المتردي للأجور في مديرية المسارح إلى أزمات أخرى كأزمة المخرجين، وأيضاً أزمة المكان المسرحي بمعناه العلمي الدقيق، وكذلك الحاجة الماسة إلى خبراء حقيقيين في مسرح العرائس والدمى، لأننا متأخرون وليست لدينا خبرات على مستوى التصنيع ولا التحريك، ووزارة الثقافة عليها أن تتحمل مسؤولية ذلك.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار
في ذكرى تأسيس وزارة الثقافة الـ 66.. انطلاق أيام الثقافة السورية "الثقافة رسالة حياة" على سيرة إعفاء مدير عام الكابلات... حكايا فساد مريرة في قطاع «خصوصي» لا عام ولا خاص تعزيز ثقافة الشكوى وإلغاء عقوبة السجن ورفع الغرامات المالية.. أبرز مداخلات الجلسة الثانية من جلسات الحوار حول تعديل قانون حماية المستهلك في حماة شكلت لجنة لاقتراح إطار تمويلي مناسب... ورشة تمويل المشروعات متناهية الصغر ‏والصغيرة تصدر توصياتها السفير آلا: سورية تؤكد دعمها للعراق الشقيق ورفضها مزاعم كيان الاحتلال الإسرائيلي لشنّ عدوان عليه سورية تؤكد أن النهج العدائي للولايات المتحدة الأمريكية سيأخذ العالم إلى خطر اندلاع حرب نووية يدفع ثمنها الجميع مناقشة تعديل قانون الشركات في الجلسة الحوارية الثانية في حمص إغلاق الموانئ التجارية والصيد بوجه ‏الملاحة البحرية.. بسبب سوء الأحوال الجوية صباغ يلتقي بيدرسون والمباحثات تتناول الأوضاع في المنطقة والتسهيلات المقدمة للوافدين من لبنان توصيات بتبسيط إجراءات تأسيس الشركات وتفعيل نافذة الاستثمار في الحوار التمويني بدرعا