شارع الألبسة الجاهزة أو كفساتين النساء الحزينات
تشرين- علي الراعي:
تماماً.. كما تحتفظ أغلب النساء، ولاسيما الكبيرات في السن، بفستانٍ أسود، وأحياناً مع منديلٍ أبيض، يركنّه في خزانة ملابسهن، ليرتدينه في سيرهن خلف جنازة إلى المقبرة، أو أثناء تقديم واجب العزاء، ومن هنا كان اختيارنا لهذا العنوان (شارع الألبسة الجاهزة)، بعد إذن صديقنا الشاعر محمد عُضيمة باعتباره عنواناً لإحدى مجموعاته الشعرية.
هكذا أيضاً يحتفظ الكثيرُ من الكتاب، بنصوصٍ تصلح للسير خلف الجنازة، للذهاب بها وتقديم واجب العزاء حتى إن بعض الكتّاب لا يكتب شيئاً إلاّ خلال جنازات الموتى هذه.. فيظهرون، وكأنهم «ولدوا» مع الجنازة، تماماً كما استئجار «الندابات» ليندبن ويولولن خلف الجنازة أو خلال تقديم واجب العزاء، حيث النص الجاهز والأمر نفسه يحدث في التكريمات و«الانتصارات»، ومختلف المناسبات في الأفراح والأتراح والليالي الملاح.. حيث النصوص الجاهزة نفسها، والأمرلا يحتاج إلا لتغيير اسم الميّت فقط، أو اسم «العريس» الجديد..!!
بين العواء والعويل
صحيح أن الصمت في الملمات يفقدُ بلاغته هو الآخر، ويتجه ليصير بحجم الاتهام، لكن الكتابة هنا إن لم تقارب الحدث، فإنها تصير نصوصاً للخيبة فحسب، عندما تتعطل الأبجدية أمام دموية الصورة التي ترشق جراحها في وجوهنا، ويصيرُ النصُّ أقل من بلاغتها نصاً عاجزاً.. مرةً يطلقُ العواء، وأخرى يطلق العويل.. هنا يقع الكاتب أو المبدع في الخذلان من جهاته الست..!!
ذات مرة كتب زميلنا الأديب حسن م يوسف ما معناه: لو كان الفقرُ رجلاً فإنني أشك أن في استطاعتي قتله، لكن لو كان «الإنشاء» رجلاً، فأعتقد أن لدي كل الجرأة لقتله.. ذلك أن النص الرديء الذي يقوم على الإنشاء يصيرُ أذاه مضاعفاً أو مركباً، فمن جهة يسيء إلى القضية أو الملمة، وحتى إلى «المرحوم» نفسه، ومن جهة أخرى يصيرُ عبئاً على الأدب نفسه، إن كان النص ينتمي إلى الأدب، وهكذا يسيء أيضاً إلى الأغنية والمسرح، والسينما، والفن التشكيلي.. إذ ما انتمى النصُّ إلى واحدٍ منها.
الجرنيكا وبيكاسو
يحكى أنه عندما طلب البابا من بابلو بيكاسو أن يسجّل الكارثة التي وقعت على قرية «الجرنيكا» الإسبانية خلال الحرب العالمية، تردد في البداية، لخشيته من عجزه مقاربة فظاعة الحدث الذي وقع على القرية، ومع ذلك فقد أنجز اللوحة التي صارت أسطورة الفن الذي يتحدى الحرب ويصوّر مآسيها خلال ست مراحل، وعلى مدى سنتين كاملتين بعد قصف القرية..!! عندما تتعطل الأبجدية أمام هول ما يحدث، يصبحُ موقفٌ ما، يعادل أبجديات الكون كلها.. لكن الخشية، أو الخطر الذي يقع، أنّ النصوص المركونة كفساتين النساء الحزينات يُنفض عنها الغبار لتسوّد الصفحات لتسيء مرةً ثانية إلى المواقف النبيلة، فتتغزلُ بالأداة، وتنسى الموقف نفسه .. بدل أن نفعل مواقف مماثلة أو تكون كتابة مقاربة لها..!!
في دروسنا في اللغة العربية أيام المدرسة، كان ثمة سؤال نُسأل به على مدى سنوات طويلة مضت، ولاسيما خلال دروس «المحفوظات» أي الشعر والقصائد والسؤال: هل عاطفة الشاعر كانت صادقة في النص؟!!، ورغم تراجوكوميدية الجواب التي كان ينتظرها مُدرّس اللغة العربية.. فإذا كان غرض القصيدة غزلية وعاطفية، فهي في رأيه عاطفة كاذبة، أما إذا كانت شواغلها: وطنية وافتخاراً، فهي من وجهة نظره صادقة..
مع ذلك.. مازلت أعتقد أن السؤال لايزال مشروعاً لأصحاب هذه النصوص «التعبوية» العاجزة اليوم عن التعبئة.. فهل تكفي العاطفة لتكون صادقة، ليقدّم المبدع نصاً جيداً؟!!