عتبة الـ 60 الشيخوخة في الروح أكثر مما تكمن في الجسد.. انطلاقة جديدة في الأدب والحياة

بعيداً عن القائمة الطويلة لأمراض الشيخوخة، من خرف واكتئاب وعزلة وشك ووسواس وتوتر وبكاء واضطرابات النوم وشعور بالذنب والإحساس باللاأهمية.. حتى التفكير في الانتحار، يعمد المنظور الجديد إلى إخراج الشيخوخة من الإطار الكلاسيكي، بدءاً من التساؤل حول عتبة 65 عاماً، التي تمنح الفرد، وبشكل قانوني، صفة الشخص المسن. ما يستدعى وجوباً سحبه، حتى لا نقول “طرده”، من سوق الشغل، وبالتالي إحالته قسراً إلى التقاعد أو المعاش.
تلقى الشيخوخة مزيداً من الاهتمام في الأعوام الأخيرة، باعتبارها قضية عالمية تؤرق بأسئلتها الأنظمة والشعوب، حتى قيل إنها نجحت في سرقة الأضواء من الشباب ومشكلاته، ولاسيما بعد تجاوز النقاش دائرة المسائل التقليدية المرتبطة بالتكلفة الاقتصادية لرعاية شريحة اجتماعية في تزايد عاماً بعد آخر، نحو دوائر أوسع تعتمد مقاربات جديدة في التعاطي مع الموضوع، يمتزج فيها الفلسفي بالأدبي والاقتصادي بالاجتماعي والطبي بالطبيعي.. وذلك بحثاً عن منابع المتعة في مرحلة الشيخوخة.

وفق هذه القاعدة، يجد الإنسان نفسه بعد هذه السن مجبراً على الانسحاب من الحياة، لتصبح بذلك أعوام خبرته وتجربته ودربته جزءاً من الماضي. فهو ابتداء من هذا العمر “لا شيء!”، فئة اجتماعية مهملة بلا دور عدا انتظار “الموت” مصيرها المحتوم. تكفي التعبيرات اللغوية الشائعة للدلالة على هذه الفئة العمرية دليلاً على ذلك، فهم “أرباب معاشات” أو “المرحلة العمرية الثالثة” أو “أناس السكينة والهدوء”، وبعبارات غير لطيفة “أطلال” أو “بقايا غير صالحة” أو حتى “مقابر متنقلة”.

بذلك، تتخلص المجتمعات من كنوز ثمينة وذخيرة معلومات مهمة، فالشيخوخة في النهاية بمنزلة هدية للأجيال الجديدة، يفترض الاستعانة بها لاختصار الوقت في تجارب الحاضر، لكن الحداثة لها رأي آخر، يحتم إبعاد هؤلاء بسبب “عجزهم” عن مسايرة الإيقاع، والدفع بهم لقضاء “أيامهم الزائدة”، بتعبير الروائي اللبناني حسن داود، منعزلين في شقق خاصة أو في دور لرعاية المسنين وجهاً لوجه مع الألم والكآبة والحزن.

صورة نمطية سائدة تكررت المساعي التي تحاول جاهدة القطع معها، بالكشف عن جوانب أخرى، غير ذاك الهوس المتعلق باستدعاء الموت أكثر من الحياة. فبلوغ المرء عتبة الستينيات، قد يشكل انطلاقة جديدة في الحياة، كما هو الحال بالنسبة إلى المغني النمساوي أودو يورجينز، صاحب أغنية “الحياة تبدأ في سن الـ66”. وكذلك كان الحال مع الكاتب المغربي إدمون عمران المليح الذي بدأ إطلاق باكورة أعماله، بنص مدهش حمل عنوان “المجرى الثابت” (1980)، في الـ63 من العمر. قد لا تكون الشيخوخة دوماً حكاية نجاح، ولا مصدر حتى سعادة لمن بلغها منهكاً من عناء الرحلة، إنما مرحلة خوف ورهبة -وربما ذعر- من التقدم نحو المستقبل المجهول. كان ذلك حال الكاتب المصري الراحل أحمد خالد توفيق، “فجأة وجدت أنني في الـ40.. الـ45.. ثم سن الـ50! هذه أرقام لم أسمع عنها قط ولم أتخيل أنها ممكنة.. بدأت أشعر بالذعر عندما لاحظت الباعة يقولون لي يا «حاج»”.

هؤلاء وأمثالهم من خاطب المبدع الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز، في سيرته الذاتية “عشت لأروي”، متحدثاً عن الحياة بأنها “ليست ما يعيشه أحدنا، وإنما هي ما يتذكره، وكيف يتذكره ليرويه”، فالمسألة، بحسب الرجل، ليست في الحقبة الزمنية ولا في عدد الأعوام، بل في الكيفية التي يعيش بها الإنسان تلك الأعوام. أسلوب حياة جعله يكتب، وهو في العقد الثامن من العمر، فيما يشبه قواعد أو فلسفة في التعامل مع الشيخوخة، بأن “سر الشعور بالسعادة في المراحل المتقدمة من العمر هو إرادة التعامل مع العزلة والوحدة”.

وكتب حكيم الرومان شيشرون الذي مات على أعتاب الـ70، وهو عمر طويل في ذاك الزمان، كتاباً بعنوان “عن الشيخوخة” في القرن الأول قبل الميلاد، أقرب ما يكون إلى امتداح لهذه المرحلة العمرية، لدرجة أن مضمونه الذي جاء على طريقة المحاورات الأفلاطونية، أثار شهية ميشيل دي مونتاني، أشهر روائي فرنسا في القرن الـ16، لبلوغ هذه السن. أمنية لم يكتب لها التحقق، بوفاته الأديب الفرنسي عن عمر يناهز 59 عاماً.

يدافع الفيلسوف عن الكهولة مقرّاً بكونها مرحلة عمرية، مثل الطفولة والشباب، مع فارق بسيط يتمثل في اختلاف مزايا هذه المرحلة عن سابقاتها. وهنا تحديداً مدار الإشكال عنها، حيث يرغب الإنسان في البقاء على إيقاع الصبا والشباب. معنى هذا ببساطة أن كل مرحلة من العمر لها جمالها وسماتها الخاصة، متى حرص المرء على الالتزام بقواعدها.

حاول الفيلسوف دحض المبررات التي قيلت في نقد الشيخوخة، من كونها تبعد المرء عن النشاط، وتشعر الأبدان بالضعف والهوان، وتحرم من ملذات الحياة، فضلاً عن كونها تقرب من الموت.. لا طعم للشيخوخة، في نظر شيشرون، ما لم ينعكس تغيير الأبدان على الأذهان، فالزعم مثلاً بافتقاد الحياة النشيطة غير صحيح. فكل ما هناك هو تغير نوعية هذا النشاط من مادي إلى عقلي، “فالأفعال العظيمة لا يقيم أداؤها بما استخدم فيها من قوة وسرعة ورشاقة بدنية، لكنه يقيم بالحكمة وقوة الشخصية والحكم المتزن. وتتوافر هذه الصفات للأشخاص في شيخوختهم، بل إنها تنمو وتزداد مع مرور الوقت”.
حضرت الشيخوخة في المتن الروائي العالمي، بأعمال روائية أبطالها شيوخ وكهول يسعون إلى تغيير النظرة نحوهم، أمثال سانتياغو بطل أرنست هيمنجواي في رواية “الشيخ والبحر”. يبقى المثير للانتباه أن الروايات اليابانية تتربع على “أدب الشيخوخة” -مع التحفظ على الوصف- وذلك طبيعي بالنظر إلى ما تثيره الشيخوخة من أسئلة في اليابان، فهي صاحبة أعلى نسبة سكان فوق 65 عاماً في العالم. ما دفع الدولة إلى إقرار عيد سنوي للمسنين يصادف الثالث من أيلول ، وتخصيص حي تجاري بأكمله “حي سوجامو” في قلب العاصمة طوكيو، لا يدخله سوى الكهول والعجائز “باعة ومشترين”.
صفوة القول إن الشيخوخة باب كل الناس داخله، وهذا ما أثبته نظماً شعراء عرب على مرِّ العصور والحقب، حتى قيل، “ما بكت العرب على شيء مثل بكائها على شبابها”، لأنهم أهل إقدام وحزم وشجاعة يرفضون الضعف والهوان. فأطلق زهير بن أبي سلمى صيحة السأم قائلاً، “سئمت تكاليف الحياة ومن يعش/ ثمانين حولاً لا أبا لك يسأم”. وقال الطبيب أبي بكر بن زهر الأندلسي يرثي حاله، “إني نظرت إلى المرأة إذ جليت/ فأنكرت مقلتاي كل ما رأتا، رأيت فيها شيخاً لست أعرفه/ وكنت أعهده من قبل ذاك فتى، فقلت: أين الذي مثواه كان هنا/ متى ترحل عن هذا المكان متى؟ فاستجهلتني وقالت لي وما نطقت/ قد كان ذاك وهذا بعد ذاك أتى”. وقال آخر واصفاً فعل المشيب فيه، “أصبحت شيخاً أرى الشخصين أربعة/ والشخص شخصين لما شفّني الكبر، لا أسمع الصدر حتى أستدير له/ وحال بالسمع دوني المنظر العسر، وكنت أمشي على الرجلين معتدلاً/ فصرت أمشي على ما تنبت الشجر”.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار