طبيبة أسنان تخوض في بحر أدب الطفل.. «العلاج» بأدوات من حبر وورق..
تشرين- جواد ديوب:
تمّ تكريمها عدة مرات، كما فعلت مؤخراً وزارة الثقافة بمناسبة فوزها بالمرتبة الأولى في مسابقة أدب الطفل لعام 2022 عن سيناريو «كومِكس/كتابة مصوّرة» اسمه «عالمنا الصغير» أحبّتْ من خلاله أن توضح كيف لنا أن ننجو من الشائعات في خضم ثورة التواصل السريعة وأهمية أن يتحقق الأطفال من صدق المعلومات، ودورهم الفعال في حل مشاكلهم بأنفسهم، واستخدام التكنولوجيا لخدمة أغراضهم. كتبت عشرات القصص داخل سورية وخارجها، وتكتبُ حالياً لمجلة «شامة» السورية سلسلةَ سيناريوهات بعنوان «فيولنت تحتاج للمساعدة » (اسم الشخصية الرئيسة في السلسلة، والاسم مأخوذ من الكلمة الإنكليزية: violent أي عنيف أو عنيفة) والمقصد من ذلك أن العنف الذي بداخلنا يحتاج للمساعدة، وهدفها من هذه السلسلة تعليم ألف باء المشاعر والاحتياجات للطفولة المبكرة لتكون منهجاً لهم يعينهم مستقبلاً، فمعظم كتب الأطفال تهتم بكل ما يحيط بنا من علوم وفنون ولغات ولكن قلما نجد قصصاً تهتم بهم وبدواخلهم وتعلمهم الرفاهية الداخلية، والسلسلة هي نوع من اقتباسات مستقاةٌ من كتاب «التواصل اللاعنفي» للكاتب مارشال روزنبيرغ، تحاول أن يكون قاموساً للأطفال ليتعرفوا من خلاله على حقيقة مشاعرهم واحتياجاتهم، «فعندما يعرف الأطفالُ ويفهمون مشاعرهم واحتياجاتهم ويتمكنون من التعبير عنها… سيتحملون مسؤوليتها ومسؤولية ما يفعلون، ولا يسقطونها على الآخرين، وبذلك نثري مجتمعنا بعلاقات تتصف بالفهم وتعيد له التوازن».
هي طبيبة الأسنان الدكتورة «هند مصطفى» بشخصيةٍ لطيفةٍ محببة انعكست في أفكار وكلمات قصصها الرهيفة الذكية، في زمنٍ يحتاج فيه أطفالنا إلى هذه «القوة الناعمة» المخزونة في الحكايات ليتمكنوا من تحمّل آثار كوارثَ خلخلتْ ميزانهم النفسي ومنطوقهم اللفظي وتصرفاتهم مع كل مَن حولهم.
الكاتبة هند مصطفى: حين يفهم الأطفال مشاعرهم سيتحمّلون مسؤولية أفعالهم ولا يسقطونها على الآخرين!
«تشرين» التقت الدكتورة هند مصطفى وسألتها:
*من اللافت جداً أنك تخوضين الآن في بحر أدب الطفل إضافة إلى أنك طبيبة أسنان… ما سبب هذا التحوّل؟
في الحقيقة هذا ليس تحولاً، فأنا مازلت طبيبة أسنان، لكن باعتباري قريبة من الطفل بحكم عملي في المراكز الطبية ومراكز الإيواء بعد الحرب… كان من واجبي أن ألجأ إلى ما يساعدهم على تخطي هذه الرضوض والأزمات النفسية التي تعرضوا لها، فبدأتُ الكتابةَ بشكل عفوي، وما كتبتُه لاقى صدىً طيباً سواء عند الأطفال أو عند المختصين في أدب الطفل… لذلك قررت أن أتعمقَ أكثر في عوالم هذا الأدب ليكون ما أكتبه لهم أكثر جمالاً واحتراماً لعقولهم وأرواحهم.
*أنتِ من أسرة متواضعة وبسيطة لكنها مثقفة ومتعلمة… كيف أثرت تربية الأهل في تكوين معارفك؟ وهل للذكريات مع إخوتك وشخصياتهم المرحة الفكاهية وأولادهم الكثيرين دورٌ في إنضاج أفكارك عن الأطفال؟
أنا من قرية «الهزّاني» في ريف مصياف، محافظة حماة، عشتُ فيها طفولتي بشكل كامل أنا وأصدقائي، وكنا نحن أبطال الحكايات التي نلعبها ونؤلفها بتلقائية، نحن المغامرون والمستكشفون، كنا نعيش في مجتمع «مثل القبيلة» يضم الأجداد والأقرباء الكبار والصغار والجيران فهناك عدد كبير من الأشخاص حولنا، ولكلٍّ منهم حكاية يحكيها لنا في السهرات، تعلمنا فن الإصغاء. إضافة إلى أنّ والدي قارئٌ نَهِم، إلى اليوم لا يترك الكتابَ من يده، وخاصة ديوان «بدوي الجبل» يحمله معه أينما ذهب، لكن الأثر الأكبر بصراحة هو لوالدتي المرحومة «أم صالح»، والتي كانت حافظة للقرآن والشعر وقصص الأولياء الصالحين، وكانت -في كل خطوة من حياتها وحياتنا- تقول لنا حكمة أو قصة مأخوذة من القرآن، أو آية قرآنية تدعم توجيهاتها وتربيتها لنا، وكانت أيضاً تُردّدُ أشعاراً صوفية، خاصةً أشعار الأمير «الحسن المكزون السنجاري»… وعرفت منها أبا فراس الحمداني وقيس بن الملوح قبل أن أقرأهم في المدرسة، وعندما كبرنا وغادرنا جميعاً مجتمع القرية ذاك، كانت أمّي ترسل اشتياقها لنا عبر التسجيل الصوتي من الأشعار والعتابا، ويستحضرني الآن شعر لقيس بن الملوح كانت ترسله لنا مراراً:
كتبت وقلبي يشهد الله عندكم
ولو أني طير لكنت أطير
وكيف يطير المرء بلا أجنحة
ولكن قلب المستهام يطير
تخيّل أنها بقيت حتى آخر يوم في حياتها تردد تلك الآيات وتلك الأشعار، بالرغم من نسيانها لنا وللأشخاص من حولها… وهذا يفسّر بشكل لافت أثرَ الكلمة المذهل الذي عشناه!
*حدثينا عن علاقتك مع طفلتك الوحيدة «يارا»… هل تستقين بعض قصصك من تفاصيل علاقتكما وأفعالها وردود أفعالها؟
بالنسبة لابنتي يارا، وبحكم عيشنا في العاصمة، كنت أحرض بشكل شديد على أن آخذها معي في زياراتي إلى القرية، إلى عالم الضيعة والدجاجات والنهر والعنزات وكل ما يتعلق بالأجواء الريفية، فالطبيعة ملهمة وغنية، رغم انتباهي لمتطلباتها كفتاةٍ تنتمي إلى «جيل حديث»… وفي معظم شخصيات الفتيات في قصصي يحضرُ طيفُ ابنتي يارا وشغفها وشغبها ومغامراتها وجرأتها الحقيقية وإقبالها على الحياة، وتصبح «يارا» بطلة قصصي أو شخصيةً مؤثرة من شخصياتها.
*حبذا لو تطلعيننا على أثر تعاملك مع الأطفال في مراكز الإيواء أو في المستوصفات العامة والقادمين من بيئاتٍ نائية… أخبرتِني مسبقاً أنّ هذا القرب منهم حرّضك على كتابة قصة مؤثرة هي «قطار لؤي»؟
**تعاملت مع الأطفال في مراكز الإيواء أثناء حملات الطبابة، كنتُ أشعر أن أولئك الأطفال هم متفرجون فقط على حياة بائسة تجري حولهم، وليس لديهم القدرة على شراء كتاب أو قصة تُعَدُّ رفاهياتٍ هم بعيدون عنها بحكم الحرب والفقر والتهجير والأمراض المنتشرة ونقص المياه النظيفة…إلخ، لكني كنت دائماً أنتبه إلى أن لهم الحق في الحلم، لهم الحق في الرغبة بالتغيير والطيران والسفر… لذلك خطر في بالي أن أكتب قصة بعنوان «قطار لؤي» عن أنموذج لطفل الخيمة الذي يحلم بـ «بابا نويل» يهديه قطاراً، في دلالة عن الحلم وشوق السفر… وأودُّ أن أشيد بدور وزارة الثقافة التي تصدر كل قصص الأطفال إلكترونيّاً ومجاناً بشكلٍ يُسهل وصول القصص للأطفال مجاناً، فمن حقهم أيضاً أن يقرؤوا هذه القصص التي تكتب عنهم ولهم.
*أنت نشِطةٌ ومتابعةٌ لمجموعات متخصصة على الفيسبوك تُعنى بأدب ورسومات الأطفال… كيف في رأيك أفادت التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعية هذا المجال؟
التكنولوجيا ساعدتني بشكل كبير جداً لأنها قرّبت الخبراءَ مني، ولأنه لا يسعنا السفر للمشاركة في معارض كتب أطفال على مستوى الوطن العربي والعالمي.
لكن البداية الحقيقية كانت حين أعلنت وزارة الثقافة السورية عن ورشة لكتابة إبداعية للأطفال، تعرفتُ يومها على الأديبة المميزة «أريج بوادقجي» التي أعطتنا أسساً قيّمة وأفكاراً مهمة، وكذلك الشاعر «قحطان بيرقدار»، والرسامة المبدعة «عدوية ديوب» ولينا نداف… كل ذلك صقل تجربتي وأغناني فعلاً، وزاد في رغبتي للغوص أكثر في عالم أدب الطفل. كما أجريت ورشة لكتابة القصة المصورة للكاتبة المميزة «ماريا دعدوش» على منصة «إدراك»، كذلك الأمر مع ورشات مع مجموعة (كتب أطفال) على الفيسبوك لتعليم كتابة وتحرير القصص، وحالياً مع «جنى للقراءة» للأستاذة «ريما كردي»، وسأقول بكل أمانة إن وزارة الثقافة، والهيئة السورية للكتاب عبر إصداراتها المخصصة للأطفال، والأدباء والرسامين المشرفين على مجلتي «أسامة» و«شامة»… يعملون بإخلاص ودراية ودأب يجعل الكثير مما ينتجونه يستحقُ الإشادة والتحية.
النص الآتي كتبته الدكتورة هند مصطفى، وهو قصة عن الأم، تُروَى من وجهة نظر طفل مصاب بـ «متلازمة داون»، وكان ذلك لتوافقِ الاحتفال العالمي بمتلازمة داون مع عيد الأم في بلادنا:
«يدُ أمّي»
في بيتنا الريفي الكبير نتشارك الغرفة، نحن الإخوة الخمسة.. تنادينا أمي صباحاً، وهي تعجن الخبز.
وصلواتها العذبة، تبعد الشرّ… وتجلب الخير.
لنلاقي الصبح الجديد… ونتنفس الزفرة الأولى.
تروي لنا حكاية الخبز
ذرة طحين وحبة قمح
مَنْ زرعَ ومَنْ حصَدَ
مَن أنزل المطرَ
وباركَ الزرع
بركتك يا ربي
كيف تعرف أمي أني استيقظت… فأنا لم أفتح عينيّ بعد.. أنفي أفاق قبلي، واشتم رائحة الحليب المغليّ على الحطب.
تقول أختي الوسطى: إنّ رائحة الحليب والحطب
كعطر نسائي ورجاليّ في قارورة واحدة!
تنادي أمي أخي الكبير: تعال يا يداي، ساعدني بإنزال الحلّة عن الموقد، وهل لليد أن تطبق بلا الإبهام!
تأخذ أختي الكبرى دورَ أمي في غيابها.
ترشدُ وتوجّهُ، تنهى وتأمر بسبابتها، فهي صديقتها، وعقلها الرشيد.
وأختي الوسطى، فنانة البيت، بحسها الرفيع وذوقها البديع، تزركش البيت بالسنارة والخيط.
تناديها أمي: تعالي يا عيني، ومن أمهرُ مِنها… بسمِّ الإبرة تُدخِلُ الخيطَ.
وأخي الصغير بالحركة يطير… أسرع من السرعة
من يحضر الأغراض.. يراكضُ الدجاج…
بقدميه الفتيتين، لا خوف من الدهر.
هو آخر العنقود هو خنصرُ اليد.
أما أنا… فمَنْ أنا؟
يخلق من الشبه أربعين! ومن كثرة الحب فقد خلقَ مِن شبَهي ألفَ ألفَ أربعين.
في وسط آسيا بلدٌ بأكملها تشبهني بالفم والأنف والعين، يقولون إنّي «طفلُ متلازمة داون»… أنا الضحكة… أنا الدمعة…. أنا البركة…وأنا إصبع الخاتم «شبّيك لبّيك»… الشكر لك يا رب، لكل هذا الحب.
أمي هي نحنُ… ونحنُ… نحنُ…هِي!