الدراما السوريّة لاتزال جميلةً وأصيلةً مثل حصان الحرب الناجي!
تشرين-جواد ديوب:
يتقمّص الممثلون السوريون أدوراهم حتى آخر نقطة من عرقهم وأرقهم وغوصهم في أعماق الشخصيات المكتوبة كأنهم خُلقوا ليفعلوا ما يفعلوه بطريقةٍ تبدو للمشاهدين كأنها «شُربة ماء»، أو كأنها -حسب التعبير الإنكليزي- «قطعةُ بسكويت تذوبُ في كأس شاي»!
أداءٌ عالميٌ إلى درجة أن كثيراً من المشاهدين، وعِبر تاريخ الدراما السورية العريق، صاروا ينادون الممثلين السوريين بأسماء أبطال تلك المسلسلات بدلاً من أسمائهم الحقيقية، من شدة تأثرهم بها، بل أصبحت تلك «الكاركترات» موضةً دارجةً على لسان الناس يتندرون بمنطوقها وأفعالها في السهرات والأحاديث اليومية مثل «فيّاض/في مسلسل الخربة»، و«أسعد وجودي» في «ضيعة ضايعة»، أو مثل الطرفة التي يقال إنها حصلت أيامَ الجماهيرية الكاسحة لمسلسل «باب الحارة» حين راح بعضُ الأطفال يركضون وراءَ الفنان «نزار أبو حجر» وهم يردّدون بصوت عالٍ ما كان يُغنّيه في المسلسل بشخصية «أبو غالب/بائع البليلة» :«بليلة بلبلوكي… وبسهل حوران زرعوكي.. وقطّفوكي وحصدوكي.. وعلى مال قبّان شحنوكي.. يا جبّار يا عزيز بألف ليرة إنكليز… بليييلة بلييلة»!
ولا يمكن أن نغفلَ، بكل تأكيد، عن قوّة «الموضة» أو تأثير «التريند» في جذب المشاهدين والمعجبين بهذا الممثل أو تلك الممثلة، إلى درجة أن جيلاً كاملاً من الشباب «قلّدَ» الممثل «تيم حسن» في شخصية «جبل الهيبة»، وها هو جيلٌ جديدٌ يملأ صالونات الحلاقة الرجالية طالبين من الحلّاقين أن يُهندسوا لهم ذقونَهم وشواربهم مثل «شوارب عاصي الزند»!
نعم، فتأثيراتُ «القوة الناعمة»المحمولة على «الموضة» يمكن لها أن تغيّرَ -عِبرَ التكرار- أنماطَ تفكير مجتمعٍ بأكمله، وتجعلَ ممّا كان«غيرَ مقبول» يصبحُ «مقبولاً» بل ومحبّباً ومطلوباً من الناس وشركات الإنتاج وحتى من الممثلين أنفسهم… وأعتقدُ أن أسباب ذلك بدايةً هو براعة كاتب النص الدرامي (مثل الدكتور ممدوح حمادة، وعُمر أبو سعدة في مسلسل الزند) الذي عرف كيفَ يصوغُ منطوق شخوص عمله كما لو أنّه «عالمُ نفسٍ اجتماعي» خبيرٍ بالطاقة المخزونة في «اللعبِ المسرحي» والذي يتمظهرُ على شكلِ جملِ طريفةٍ، وكلماتٍ يكررها الممثلُ فتصبحُ لصيقةً بشخصيته مِثل وشمِ البدويّ، وتنتقلُ بـ «العدوى الإيجابية للضحك» إلى الجمهور المستمتع بترديدها وتناقلها والتندّر بها.
سببٌ آخر لذلك التأثير هو القصة أو حكاية المسلسل، إذ يمكن، لي على الأقل، أن أستشعرَ القهرَ والظلم الذي يتعرض له «عاصي الزند» وأهالي تلك القرى من قبل الباشا ورجاله، كما لو أننا نعيش اليومَ القهرذاته إنما بـ «تمظهراتٍ» وأشكال حديثةٍ تجعلنا كلّنا «عاصي الزند»، بل تجعلنا نتمنى لو أن «ذئبَ العاصي» -هذا الروبن هود المُعاصر- يأخذَ لنا بثأرنا التاريخي.
إذاً، نصٌ منسوجٌ من شخصياتٍ تُشبهنا، براعةٌ في التمثيل كأنها موجودة في جينات الممثلين السوريين، ثم دورُ المخرجين السوريين المذهلين، هؤلاء الذين يشبهون قادة الأوركسترا، بعينٍ سينمائيةٍ تقدّم لنا المشاهدَ كأنها لوحاتٌ مرسومةٌ بالضوء والظلال، ويجعلوننا نستمعُ إلى أنفاس الممثلين كأننا نحنُ مَن يقف أمام الكاميرا.
فهل يمكن أن نغفلَ مثلاً عن أحد مشاهد المواجهة بين «سلوم حداد» و«باسم ياخور» في مسلسل «العربجي» حين نلمحُ في عيون كلٍ منهما تاريخاً من البراعة والإتقان، وحين نسمع في صوت «العربجي» هديرَ كرامته المهانة!
وإذ أقولُ نسمعُ، سترجفُ قلوبنا على هدهدة صوت «مها الحموي» وهي تُعيدُ غناءَ مواويل «برهوم رزق» والراحل العملاق فؤاد غازي ببحّتها الحنونة السائلة مع ماءِ موسيقا «آري جان سرحان» الذي عرفَ كيفَ يختار ويمزجَ مواويل العتابا الحزينة بنكهةِ توزيع هارموني مُعاصر يبدو أنه باتَ الأقرب إلى سمعِ الناس حالياً، خاصةً بعد عقدٍ وأكثر من أغاني شاراتٍ وموسيقا تصويرية اعتمدتْ هذا القالب من التحديثات الموسيقية لأغانٍ وموسيقا تراثية تكاد تصبح من منسيّات الجمهور!
ما قلتُه، سواء عن الممثلين أو النصوص أو الكتاب والمخرجين والموسيقا، هو بعضُ أمثلةٍ عن دراما سوريّة تفاجئنا في كل موسم رمضاني بأنها، مثل حصان الحرب الناجي، لا تزالُ أصيلةً وجميلةً وجذّابةً رغمَ كل الندوبِ الموشومةِ على جسدها.