الشاعر والروائي العربي عباس بيضون: شاعر حداثي بنكهة أصيلة
تشرين- إدريس هاني:
يسكن، كما لم يفتأ يذكّر، تلك التخوم، ليست بالضرورة رمادية، بين الشعر والنثر، سُكنى من نَثَر شِعراً ونَظَم نثراً، بين الشعر والرواية، الذهاب والإياب الصّعب، الشاعر عبّاس بيضون، ابن صور بالشغف، الحاضرة/الحاضرة في تجربة الغياب، الوفيّ للمكان، هي صور حيث بدت له كما في رائعته: صور قصيدة، صور المنحدرة من سُلالة الماضي المكتنز بالعراقة، والبحر الذي يحمل رائحة الصيد، حين يتغنّى بها بيضون، ويلخّصها في كلمة: أنت صور التي سقطت من جيب التاريخ «صوري» بالوفاء، وليد بنت جبيل المكللة بالتين والزيتون والأرز والكفاح الوطني، من أواخر الشعراء الطيبين الأوفياء للعزلة والتّأمل، من دون أن ينسى نصيبه من الاشتباك مع الواقع عبر مهنة المتاعب، لكن في مختبرها الثقافي، مسؤول الملحق الثقافي لجريدة السفير اللبنانية، واحدة من معالم لبنان العتيدة.
كنت أحتفظ له بشكر منذ فتح لي الصفحة الثقافية أمام أولى محاولاتي في القصة القصيرة قبل سنوات، استقبل بعثتي القصصية بقبول حسن، لا بل جرّأني من خلال هذا القبول الحسن، على التّمادي السّردي. وبعض من تلك الأقاصيص القصيرة جرّأني عليها أيضاً الراحل محمد شكري، صاحب الخبز الحافي والشطار، بعد أن أطلعته عليها. وبالفعل، تلك المجموعة القصصية التي نويت، بل وعدت بإصدارها – في لقاء بصحيفة الثورة/دمشق- قبل ثلاثة وعشرين عاماً، كما وعدت بها الراحل محمد الماغوط، الآن أبحث عن بقاياها عبثاً، ترى كيف أفي بوعدي؟
إن سُكنى التخوم بين السرد والشعر، تمنحك أفقاً أكثر تركيباً، وتضعك أمام الاحتمال الذي يقضمه النظم والقافية وهيمنة الشكل بدل الصورة العميقة المحتملة، والموسيقا التي تبحث لها عن آماد ميتا- صولفيجية، تكاد لاتعثر عليها سوى في القصيدة النثرية الماتعة.
يمشي الشاعر عباس بيضون الذي أرّخ لنفسه عبر القصيد، لمشاعره والأشياء كما تراءت له وما زالت تتراءى، تحمل القصيدة البيضونية تجربة شعورية كوسمولوجية، متعالية على النمطية، سائرة في تجارب الأمم الشعرية بين بيروت وباريس وبرلين كما تؤكد سيرته، من هنا كان نقل شعره إلى لغة موليير ليس بالعناء الكبير، فهو من رواد الحداثة الشعرية.
ومع إنّ الشاعر عباس من جهة الأم موصول بميراث الأحاسيس المؤلمة لعراق يسكن ضمير السّيّاب، إلّا أن شاعر لبنان، يظل وفياً لنمطه الكامن في عراقة الهابتوس، حيث الرزء الثقيل يركب صهوة المرح الساخر والمُرطّب لواقع صُلب المواجع، وسيلة اللبناني لقهر الوجع، الشعر بوصفه احتجاجاً رضيّاً، وجبة ساخرة من واقع لطالما اعتزله الشاعر بحثاً عن معنى أعمق مما تتيحه الأنماط والسياسة التداولية.
يقطع الشاعر عباس وصله بالمستقبل، ويتخن في وصف الألم، لا أحد سيرثنا على نحو تفاؤلي، بل سنكون موضوع استعارة، لا أدري في أي سُلّم من الألم كان الشاعر عباس يحبك رؤيته، لكنه يعلنها بلا مواربة:
لقد صنعنا أطفالاً لن يكترثوا بنا
ولن يحملوا بالطبع أسماءنا
سيستعيروننا فقط
قبل أن يفسدوا عظامنا
هذه رائعة، وليس بالضرورة أن يكون المقصود بالأطفال فروع السلالة البيولوجية، بل تنطبق على كل جيل يرث رمزياً تراث الرواد، بل يستعير السابقين، بعد أن يفسد عظامهم.
الألم في نظر عباس وأحاسيسه ليس صناعة، بل هو الأرخص من كلّ ما هو معروض، سواء في الطرقات أو المتاحف، أين يا ترى ينتهي هذا القهر؟ نحن مهما بدا من أمرنا أنّنا نختار أنماطناً، نحن في أسْر، في النوم وحده نتحرر:
ابكِ، يوجد ألم حقيقي
لا يُصنّع الألم لأنه نظيف
ولا آلة لصناعته
الألم بأرخص طريقة
معروض على الطرقات
لكن أيضاً في المتاحف
ستنتقل من شاشة إلى شاشة
وتتلقى الحياة في علب وتقارير
حينها، وجب التذكير بأنّ حريتنا نمسك بتلابيبها فقط، وفقط خارج برنامج اليقظة، حيث يقول:
نحن أحرار فقط حين ننام
يتكرر ذكر الشبح في قصيدة بيضون، الشبح الذي نسكنه و نكادلا نتحرر منه. وعلينا أن نبادر ونصعّد من جهوزيتنا للانعتاق من تلك الأشباح، هذا القرين يرهننا ويرهن مصيرنا، وليس أمامنا سوى ما علينا:
علينا أن نستعدّ لمغادرة أشباحنا
التي لا نستطيع أن نخرج منها
واصل الشاعر عباس بيضون نثره الشعري وشعره النثري، في ذروة الجائحة، وخصّها بـ: «الحياة تحت الصفر» حين كان يتفرّد بنفسه بشكل رسمي، ذلك لأنّ الشاعر هو متفرّد في تأمّلاته، منعزل، وتلك هي وضعيته الأزلية، فماذا عن الحجر زمن اجتياح الفيروس التاجي؟ لا جديد سوى أن الشاعر يمكن أن يزاول عزلته وهو يمشي كما رأيته يمشي بشارع الحمرا، منخطفاً في تأمّلاته، مسرع الخطا يمشي شاعراً، ففي الحجر لم يعد ممكناً استشعار العزلة في قلب الاجتماع، في ممشى الحمراء ومنحدر فيردان، لقد بات الأنس بالذات مع الذات بعيداً عن الآخر، حيث:
هذا الجسد وحيدٌ مع نفسه
تحية للشاعر العربي الكبير عباس بيضون.