القصيدة الرقميّة تتحدّى الكتابة الورقيّة.. وشعراؤنا ليسوا على الحياد
تشرين- سناء هاشم:
منذ فترة ليست بالقريبة بدأت الطباعة الإلكترونية تطغى على الورقية، وشكل هذا الانزياح ملجأ للكثيرين حتى أبرز الكتّاب والمتمكنين في ربوع الكتابة والإبداع.. ونالت «القصيدة» في المساحة الرقمية التي أتاحتها لها شبكة الإنترنت مكانها الذي لا يستهان به وفتحت الشبكة أمام من يرغب كي يدلي بدلوه أمام متابعيه من قراء الشعر.
فهل مع هذا التطور المستمر والفرصة المتاحة بلا حدود أمام القصيدة الإلكترونية، سيكتب لها الاستمرار وإزاحة سابقتها القصيدة الورقية.. في حديث لـ«تشرين»، قال الشاعروالناقد سعد الدين كليب: علينا أن نميّز أولا بين القصيدة الرقمية والقصيدة المنشورة إلكترونياً أو المنشورة على مواقع التواصل الاجتماعي، وذلك أن بينهما فرقاً شديداً.. وأشار كليب إلى أن القصيدة الرقمية تدخل فيما يصطلح عليه بالأدب الافتراضي، وهو أدب يقوم على عدة عناصر فنيّة غير موجودة في الأدب اللغوي المعهود، من مثل الصورة المرئية الثابتة والمتحركة والموسيقا الحيّة وما يعرف بالروابط التشعبية، إضافة إلى الكلمة، ولا تختلف بنيوياً عن القصيدة الورقية.
وأضاف الشاعر كليب: «أي إنه أدب لا تشكّل اللغة فيه إلا أحد العناصر، وهو أدب لا يُمكن قراءته خارج فضاء الإنترنت، إذ إنّه نتاج هذا الفضاء أصلاً. وبذلك فالقصيدة الرقمية أو الافتراضية قصيدة سمعية وبصرية وتقنية إلكترونية معاً.» مبيناً أن «هنالك عدداً لا بأس به من النصوص الشعرية التي أقامها شعراؤها على هذا الأساس التقني، ولا يمكن لقرائها إلا أن يأخذوا هذا الأساس في الحسبان، وهو ليس موجوداً في القصيدة الإلكترونية أو المنشورة على مواقع التواصل الاجتماعي مثل فيسبوك مثلاً». واستطرد قائلاً: «فهذه القصيدة لا تختلف بنيوياً عن القصيدة/ الورقية، فيُمكن قراءتها ورقياً مثلما يمكن قراءتها إلكترونياً، ويمكن سماعها أيضاً. وقد أسهمت مواقع التواصل الاجتماعي إسهاماً كبيراً في نشر النصوص الشعرية، مثلما أسهم فيها النشر الإلكتروني الذي بات منصّة مهمة جداً للنشرعموماً، حتى إن الكثير من الشعراء ولا سيما الجُدد، والكثير من المؤسسات أصبحوا يميلون إلى النشر الإلكتروني إما لاعتبارات الحرية بعيداً عن مقصّ الرقيب أو لاعتبارات مادية أشبه بالمجانية، أو لاعتبارات النشر على أوسع نطاق، فالنشر الإلكتروني كما نعلم واسع الانتشار وسهل التداول ومجاني كذلك على الأغلب.»
المستوى الفنّي لمعظم الشعر الإلكتروني «محدود القيمة»
وفي السياق ذاته، قال كليب: «لكن لا بأس من الإشارة إلى أن المستوى الفنّي لمعظم ما ينشر من النصوص الشعرية على مواقع التواصل الاجتماعي، محدود القيمة، ولا يتجاوز المتوسط الذوقي الفني العام إلّا نادراً، وذلك أن كثرة ممّن يكتبون الشعر على فيسبوك يكتبونه من دون مراجعة وإعادة نظر، لا في المشاعر ولا في الأساليب ولا في اللغة، فتأتي النصوص أشبه بالخواطر الشعرية أكثر منها بالشعر بوصفه فناً جميلاً» أي وقال: «إن فيسبوك بقدر ما أتاح الفرصة للنشر أساء إلى الشعر، والسبب هو الكتابة الفورية على فيسبوك أي النشر الفوري.. وهذا يصلح أن يكون تنفيساً لا تعبيراً.». وتابع: «لا شك في أن هنالك الكثير من الشعراء ينشرون أشعارهم على فيسبوك، وهم يعون تماماً ما الأصول المرعية في فن الشعر، والحديث هنا ليس عن هؤلاء الشعراء، وهم قلّة إذا قيسوا بتلك الكثرة الكاثرة من المتعاطين للشعر وغير العارفين بأبجد هوز الفن الشعري، وليس لديهم إلا الرغبة في أن يكونوا شعراء!.. ولكن لا يمكن إطلاق حكم عام على القصيدة المنشورة إلكترونياً في ديوان أو في فيسبوك، تماماً كما لا يُمكن إطلاق ذلك الحكم على الدواوين الورقية، ومستقبل هذه لا يختلف عن مستقبل تلك. أما القصيدة الرقمية فهي قصيدة حديثة بكل المعاني والمعايير، وهي تشكّل في واقع الحال تحدّياً حقيقياً للقصيدة/ الورقية، وهي أيضاً تعيش تحدّياً خاصاً بها، فهي لم تثبت نفسها بعد بوصفها أدباً قائماً بذاته، ولم تتبلور أو تتوضح سماتها وخصائصها الفنية والجمالية والمعنوية بشكل كاف».
كما عبر الشاعر عن اعتقاده أنها تحتاج إلى وقت لا بأس به حتى تتوضح وتثبت وجودها، ولكن من دون أن يعني ذلك أن القصيدة الرقمية سوف تحلّ محلّ القصيدة/ الورقية أو الأصحّ: القصيدة اللغوية. إذ إن الرقمية ليست لغوية تماماً، ففيها كما أشرنا التصوير الفوتوغرافي والتشكيلي والحركي والموسيقا والإيقاعات المختلفة.
واختتم: «أعتقد أن القصيدة الرقمية سوف تحقق حضوراً وامتيازاً خاصاً بها في قادم الأيام، ويبقى أن الشعر، والفن عامة، ابن زمانه بقضاياه وحاجاته وتقنياته أيضاً».
عيبه أنه متوفر للصالح والطالح
من جهته، قال الشاعر صقر عليشي: «لا أرى من غضاضة في النشر الإلكتروني، خاصة أن له رشاقة في الوصول والانتشار، وهو غير مكلف، وعيبه أنه متوفر للصالح والطالح، وما من معايير له إلّا إذا كانت مؤسّسات مختصّة تصدره، وقد بدأت كثير من المؤسسات تسير في هذا الطريق كالهيئة العامة السورية للكتاب وغيرها…» وأضاف: «لكن مجتمعنا مازال غريباً عن هذا النوع من النشر، وتفاعله معه محدود، إضافة إلى أن للكتاب الورقي سحراً خاصاً.. وقد عرفت أيضاً أن الدول المتقدمة كاليابان وبعض بلدان أوروبا مع توفيرها الكتاب الإلكتروني لم يخف مستوى نشرها للكتاب الورقي، لذا يمكن أن يكون تعاملنا مع هذا الموضوع على أنّه موجه لمن ليست لديه المقدرة على اقتناء الكتاب الورقي».
وعن النشر على مواقع التواصل الاجتماعي، «فله ما له، وعليه ما عليه، فهو يوفر لك سهولة لا توفرها وسائل النشر الأخرى، ولكن عيبه غياب المعايير أيضاً، وبالنسبة لي فإني أداوُم عليه أحياناً وأنقطع أحياناً أخرى، حسب الظروف، غير أنه يُمكنني القول: إنه أمدّني بأصدقاء ومحبين من طراز رفيع، وربما كانوا قلة في العدد لكنهم في النوع كبار، لذا هو رافد جميل وبهذا يغطي عندي على عيوبه الأخرى».
قطريب: هناك قبائل من الشعراء بلا شعر
لا يوجد شيء اسمه قصيدة رقمية
أما الشاعر والصحفي زيد قطريب، فقال: «إبداعياً ونقدياً، لا يوجد شيء اسمه القصيدة الرقمية. فمتطلبات القصيدة في العصر الرقمي، نفسها في كل العصور، من حيث اللغة والصورة والصدق في الانفعال. لكن العصر الرقمي فتك بالقصيدة وسوّق نوعاً من الكتابة الدارجة التي يمكن تسميتها بالبوستات القصيرة وصار يكتبها أيّ كان من دون أن يعني ذلك أنها شعر».. وتابع قطريب: «العصر الرقمي فتح الباب على مصراعيه لجميع الناس أن يصبحوا (شعراء)، لكن بالمقياس الإبداعي والنقدي، هناك مقاييس تتعلق بالجدّة والخصوصية والاختلاف، وتلك صفات غير متوافرة في معظم قصائد مواقع التواصل الاجتماعي. هناك قبائل من الشعراء بلا شعر. كما كان هناك شعراء كبار يكتبون على فيسبوك قصائد ومقاطع فيها كل الشعر.»
وأردف بالقول: «طبعاً تتحمل بعض المواقع والمجلات الإلكترونية مسؤولية تسطيح الذوق العام وتسويق الرداءة وإغداق الألقاب الفضفاضة على الكتاب والكاتبات خصوصاً، مثل «صاحبة القصيدة الذهبية.. ملكة المشاعر.. أميرة الكلمات».. على طريقة الباعة في الشوارع الذين يكتبون «ملك الشاورما أو ملك البطيخ». لكن كل ذلك لن يغير نقدياً وإبداعياً في المشهد الشعري، فهذا هراء سيموت بعد أيام من نشره.»
واختتم قائلاً: «يُحسب للعصر الرقمي، خلاصه من قيود الرقابة الكلاسيكية التي كانت تُعوق صعود المواهب أو تقوم بفلترة الأفكار وحتى الأساليب، لكن بالمقياس الإبداعي، سواء كان العصر رقمياً أم «جاهلياً» فإن ما سيستمرهو الكتابة الحقيقية، أما ما تبقى فهو زبد إلكتروني سيتلاشى بالتأكيد.»