عادات رمضانية متوارثة في حلب… بعضها ما زال حاضراً وبعضها تغيّر مع الزمن
تشرين – زينب شحود:
أعراف وتقاليد خاصة بشهر رمضان الفضيل منها ما تغير بمرور الزمن ومنها ما بقي حتى اللحظة توارثها الأهالي وتناقلوها من الأجداد إلى الأحفاد وباتت جزءاً من تراثهم وثقافتهم.
التقت “تشرين” الأديب والباحث محمد قجة الذي واكب مراحل كثيرة من القرن العشرين والحادي والعشرين ليتحدث عن التطورات التي طرأت في العقود الأخيرة وجوانبها الاجتماعية والاقتصادية والنفسية إضافة إلى جانب العبادة والتي تكتمل وتتلاحق وتتتابع في عنوان عريض اسمه ( رمضان كريم..).
سابقاً كان يتم استقبال شهر رمضان بتراتيل معينة في كل يوم وفي وداعه وكان يرافقه وظيفة المسحر
يقول الباحث قجة: كانت الطقوس الرمضانية سابقاً مترافقة مع الموائد الحافلة الغنيّة باللحوم والحلويات ما يستهلك إنفاقاً عالياً في هذا الشهر، كما تترافق الأمسيّات الرمضانية مع اجتماع الأسر سواءً على النطاق الضيٍق، حيث يأتي الأبّناء إلى منزل الأب والأم أو الأحفاد إلى منزل الجد كي تتكامل الفرحة بقدوم الشهر وغالباً ما تكون الأمسيّات الرمضانية موزّعة بين بيوت الأقارب بحيث تشكّل حالةً احتفاليةً تترافق مع مأدبة الطعام الثريّة والغنيّة وبالتالي فإنّ المأدبة الرمضانية تتصل بالبيّئة الاجتماعية لكلّ مدينة وهذا أمر طبيعي مثل الشوربة المغربيّة التي تقدّم في شهر رمضان أو عصير قمر الدين الذي يقدّم في بلاد الشام ونلاحظ حضور الحلويات المختلفة التي تقدّم حينما كانت أسعارها معقولة وفي متناول فئةٍ كبيرةٍ كنّا نسميها الطبقة المتوسّطة وقد غابت هذه الطبقة وانحدرت إلى الطبقات الفقيرة .
تغيرات مجتمعية
ويتابع الباحث قجة: إنّ الذي يتغيّر مع الزمن يتغيّر بفعل التأثيرات البيئية والمجتمعية وهذه التأثيرات لها جانب اجتماعي، فنلاحظ مثلاً أنّ الأسر سابقاً في البيوت القديمة أو الأحياء القديمة كانت في بيوتٍ عربيةٍ كبيرة ويكبر الولد ويتزوج داخل البيت وهكذا يبدو البيت كأنّه مجمّع سكني فيه الأبناء المتزوجون وفيه الأب والأم وأحياناً فيه الجد والجدة وهذا تغيّر مع الزمن، ففي وقتنا الحالي النسيج العمراني الجديد المعتمد على الشقق الطابقية يستقل مباشرةً كل من يتزوج من الشبان عن أسرته ولا يبقى هذا التجمّع الكبير في بيتٍ عربيٍ واسع فيه أكثر من عشر غرف ذات طراز عمراني مميز يمثل حالة ثقافية معينة، فالحالة العمرانية هي ارتكاز على الحالة الثقافية والتراكم التراثي الذي تعبّر عنه العمارة، لذلك من الطبيعي على هذا الجانب الاجتماعي أن نرى التغيّر وأن نرى التباعد الحتمي في الأسر وتفرقها في النسيج العمراني الجديد في المدن بينما تبقى هذه الظاهرة في الأرياف أكبر، أي الظاهرة القديمة في الأرياف من جهة ، وفي المناطق العشائرية من جهة ثانية يبقى الطابع الجماعي موجوداً بشكل أكبر بكثير أكثر مما هو موجود في المدن.
ويضيف: سابقاً كان يتم استقبال شهر رمضان بتراتيل معينة في كل يوم وفي وداعه وكان يرافقه وظيفة المسحر لأن أدوات الإيقاظ لم تكن موجودة ولم يكن هناك راديو ولا تلفزيون ولا كل هذه الأمور التي حصلت فيما بعد، ونلاحظ أن هذه الوظيفة انقرضت أو بقيت بشكل فلكلوري وهي الآن حالة يرتزق بها بعض الشبان أو بعض الرجال في بعض الأحياء وليس في كل حارات المدينة.. إذاً التطور الاجتماعي والعمراني يفرض عادة معينة، لا بدّ أن تتغير وتتبدل ولذلك التغير مع الزمن أمر طبيعي جداً وليس عيباً ولا نقيصةً وإنما هو ظاهرة متصلة بالتطور الحضاري الذي يتواكب مع الأحوال الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والنفسية في كل بلد من البلدان .
خصوصية حلب
نسأله عن الطقوس الخاصة في مدينة حلب فيجيب: في مدينة حلب كنا نواكب شهر رمضان باستقباله وبصلاة التراويح يومياً وطبعاً الأسرة كانت تبتهج بهذا القدوم لأنه مناسبة لكثرة الإنفاق على الطعام بالموائد الثرية العامرة وبالحلويات، ولمدينة حلب خصوصية فيما نسميه المعروك الرمضاني وهو شكل من المعجنات يضاف إليها العسل أو الشوكولاته أو الجبن أو التمر أو ما شابه ذلك، وكان لا بدّ منها في شهر رمضان إلى جانب اللوازم الرمضانية على مائدة الإفطار يكون كالشوربات والعصائر مثل عصير قمر الدين أو البرتقال أو السوس أو التمر الهندي..
أما عن الجانب النفسي الذي يرافق الجانب الاجتماعي فيقول الباحث قجة : إنّ الجانب النفسي يتصل بالعبادة وموجود في كل الديانات ونوع من الترويض النفسي للتعود على الصبر والاحتمال في سبيل صقل الشخصية وجعلها أقوى وأكثر قدرة على التحمل في الحياة اليومية ونلاحظ في السنوات الأخيرة بعد الحرب الظالمة التي شهدتها بلادنا والزلزال المدمر الذي استكمل تدمير ما لم تدمره الحرب الجنون في ارتفاع الأسعار بلا حسيب وبلا رقيب وبالتالي تنحسر المائدة الرمضانية لدى القسم الأكبر من الناس، إذ لم تعد هناك طبقة متوسطة وإنما النسبة الساحقة من الناس في خط الفقر أو تحت خط الفقر وعدد قليل جداً ناهيك بظهور تجار الأزمات الذين استفادوا من الحروب في تكديس الثروات وابتزاز الآخرين، الأمر الذي انعكس على المائدة الرمضانية، فالقسم الأكبر من الناس لم تعد لديه القدرة على شراء الحلويات الرمضانية واللحوم الباهظة الثمن في مقابل الدخل المحدود، فالجانب الاقتصادي شديد الوضوح ويتصل مباشرة بالجانب الاجتماعي والجانب النفسي ولهذا نلاحظ الآن أن ما حصل في بلادنا كان له انعكاس يتراكم يوماً إثر يوم، وهذا أمر طبيعي جداً ونلاحظ أيضاً أن كثيراً من الشبان حين ينهون دراستهم الجامعية وأحياناً حتى الثانوية يريدون البحث عن إقامة أخرى لعلها تقدم لهم الظروف الأفضل .
الإنشاد الديني
عندما يأتي شهر رمضان يذكرنا ببعض التغيرات الملموسة ولكن مع بقاء بعض العادات فنجد مثلاً في صلاة التراويح تزدحم الجوامع ويتكدس الناس في داخلها لكي يشعروا بأنهم مرتبطون بطريقة ما بهذه الطقوس من العبادة، وبهذا التراث الذي لا يريدون أن يغادروه رغم شعورهم بكثير من الأحيان أن الظروف تفرض عليهم الابتعاد.. ففي حلب مثلاً تكثر الأناشيد على السحور أو في إقامة صلاة التراويح تنشد الأناشيد الدينية وهذه الأناشيد مرتبطة بالزوايا الصوفية المنتشرة بكثرة في مدينة حلب التي كانت تقدم كبار المنشدين الدينيين مثل الأسماء اللامعة التي نعرفها:( محمد الوراق – أبو الوفا الرفاعي – مصطفى البشايري – صبري مدلل) وحتى المطربين الذين خرّجتهم هذه الزوايا الصوفية مثل: ( محمد خيري – صباح فخري – درعوزي – محمد نصار وغيرهم) ولكن الآن أكثرها لم يعد موجوداً ولم يبقَ منها إلّا القليل .
الأناشيد الدينية المرتبطة بالزوايا الصوفية المنتشرة بكثرة في مدينة حلب التي كانت تقدم كبار المنشدين الدينيين
إذاً، هذا الجانب المتصل بالإنشاد الديني كان يتكرس في شهر رمضان وبأناشيد معينة.. ويبقى للمجتمع الحلبي خصوصيته في شهر رمضان، وهذه الخصوصية تتبدل وتتراجع بما يطرأ عليها من تغيرات لأسباب اجتماعية أو اقتصادية أو عمرانية أو ما شابه ذلك.