عن رسالةٍ .. على جدارٍ يتسعُ لمرسلٍ إليه!!
تشرين- علي الرّاعي:
اختلفت الروايات في أقدم النصوص العربية، البعض قال إن سفر أيوب كان أقدمها، والبعض الآخر وجد في سيرة الزير سالم أنها كانت البداية، غير أن النصوص غير العربية التي وجدت قبل العربية، وعلى الأرض العربية، فهي من الكثرة، لدرجة ضاق بفخارها أرشيف إيبلا وأوغاريت، عشرات الكتابات حُفرت على الصخور، وعلى الجدران، وفي المغاور، وعلى جذوع الأشجار، وشُويت لأجلها أطنان من الطين، ومن ثمّ صُقلت لأجلها أطنان من الورق، واليوم ملايين الأجهزة الإليكترونية، كان هدفها توصيل رسالة ما، ورغم كل تطور وسائل التوصيل والنقل، بقيت الأهداف ذاتها توصيل تلك الرسالة الـ«ما»، غير أنه ليس بالضرورة أن يكون ثمة مرسل إليه، وإن وجد فليس لشخصٍ بعينه، بل قد يكون المرسل إليه، هو نفسه المرسل..!
جدران جدران
إلى اليوم لاتزال الجدران، والصخور، والجسور، وحتى على الرمال، وجذوع الأشجار، صفحات بريد تتناقل تلك الرسائل، منذ أول إنسان خربش على جدران كهفه، ووعلى الأغلب هي حالات «مونودراما» لأشخاص يريدون أن يعبروا عما يعتريهم من حالات تلح على كتابتها، لإيصال رسالة عن تلك الحالة التي تفعل في الدواخل كفعل آلام المخاض، تصدر عن أشخاص على الأغلب مرتبكين ومعزولين، وهي رغم أنها رسائل فردية، غير أنها بمجملها ضمير المجتمع الخفي الذي لا يستطيع أن يعبّر عن نفسه، إلا خلسةً وبعيداً عن الأنظار، فيكتب منفساً على الجدران والصخور، وعلى خلفيات السيارات ونوافذها، وحتى على الجسد نفسه الذي يصير مساحة للتشكيل، وصندوق بريد أيضاً بما يوشم المرسل عليه من رموز وصور، وغير ذلك على تلك المساحات المكشوفة من جسده، ربما من هنا يؤكد أدونيس أن أقسى السجون تلك التي لا جدران لها، فالحكمة، أو البوح، وحتى الشتيمة، التي تولدها المعاناة والمرارة، إن لم يجد «الكاتب» شيئاً لتسجيلها، فيعني ذلك كمن وضعت له كل سبل الإقدام على الانتحار، والذي كان ما يفعله بالكتابة، أنه كان فعلاً موازياً للانتحار..!
مرجل الكتابة
الكتابة التي يصفها هنري ميلر بأنها فعل اغتصاب، وهو نفسه – ميلر- كان حين يريد أن يبرز فرادة كاتب، يقيسها بمقدار العذاب والمعاناة اللذين يلاقيهما.. ودائماً كانت الكتابة التي تأتي من هؤلاء «المخمليين» محكومة بدائرتها الضيقة، وقصرها، بل، وحتى إنه مشكوكٌ بأمر الكاتب نفسه، في أن ثمة كاتباً حقيقياً، غير المدون اسمه على الغلاف، وهل من هنا أيضاً توصف الأعمال الإبداعية بأنها الصوت المغيب، أو صوت ناس القاع والمهمشين، وهي وإن كانت فردية، أو تصدر عن شخص اعتملت في داخله، غير أنها «تهم الآخرين» لدرجة قد تكون صوتهم، ومن هنا كانت جماليات الإبداع، في أن يجد الآخرون شيئاً منهم في تفاصيلها، حتى إن اليوم ثمة من يصف طفرة الكتابة الروائية في بعض الدول ذات الأنظمة المنغلقة بـ «مناخات نسوية محقونة بالصراخ الحقوقي..» الكتابة التي هي في رأي أحد «مقترفيها» : فعل افتداء لعالم يترنح باستمرار، وهي تعويض عن سعادة غائبة..!
نتاج متدفق
في سورية اليوم لايمر أسبوع – رغم حالة الحصار وغلاء الورق- إلا وتصدر خلاله مجموعة شعرية، ومثلها قصة ، ورواية، الكتابة الجديدة، اختلفت اليوم في متنها عن مُتن السابقين، بل صار ما كان يعده السابقون هوامش، متناً اليوم، بعد زيف الكثير مما كان يُعدّ متناً في الماضي، الكاتب السابق في ادعائه كقائد للتنوير والنهضة، كان كمن يصرخ لنفسه، على الأقل كاتب اليوم يحكي عن همومه، وهواجسه التي تهمه لزملائه من الكتاب، وإن صارت الكتابة اليوم تماماً كمن يرسل لنفسه، فعندما يصير الواقع شيئاً لا يُطاق، يكون التخييل هو الملاذ لذوي الأحزان والحالمين – على ما يرى ماريو بارغاس يوسا- أو مكان للعيش، لمن لم يعد له وطن – حسب تيودر أدورنو- وربما منها أيضاً يُفسر الكتابات المتزاحمة لمن شُردوا من أوطانهم..!
فسحة عمر
وحده النص الحي يمنح الحياة لصاحبه وللآخرين ويضعهما في طريق التغيير المستمر، والقارئ الحقيقي يمنح النص حياة إضافية، حتى إذا ما انتشر النص في الأماكن والأزمنة، فإنه يكتسب حيوات تتجدد مع كل قارئ. إن متعة الكتابة الفعلية تكمن في هذا الإحساس، بأننا نمنح أنفسنا فرصة جديدة لقهر الزوال والتلاشي عبر الاتحاد بالروح الشاملة للجنس البشري. أما متعة القراءة، فتتمثل في لذة اكتشاف الآخر داخلنا من خلال إضاءة المناطق التي نحس بوجودها في أعماقنا من دون أن تتاح لنا فرصة التعبير عنها. وهي متعة دائمة وغير منقطعة لأن الإبداع الحقيقي يفيض دائماً عن نفسه ويجدد عناصره بتجدد العصور وتتابع الأجيال بما يحمله هذا التتابع من تغيير. ولذة النص التي أشار إليها «رولان بارت» تتأتى من شعورنا بأننا نعيد اكتشاف وجودنا في ضوئه، وهو شعور لا يمتلكه إلا الرحالة الحقيقيون في دروب المعرفة من الكتَاب و القراء على حد سواء. اليوم يتسع الجدار ليصبح الكون كله صندوق بريد لمن يكتب رسالة ما، ويريد إيصالها، وهي وإن لم تصل للجهة المعنية، لكنها ستصل حتماً، حتى ولو في الإعادة للمرسل نفسه..!