علاء زريفة يفترشُ القصيدةَ ألواحاً من الشّوكولا
تشرين- راوية زاهر:
(شوكولا ).. هكذا أطلق علاء زريفة اسماً على مجموعته الشعرية الصّادرة عن دار دلمون الجديدة.
وهي مجموعة يستلقي بين وريقاتها بمهابة ميتافيزيقي عتيق سبعةٌ وعشرون نصاً شعرياً، تدور رحى حروفها حول الحياة والوجود والأمل والآلهة والأنا المتشظية في عتمة الدّروب، لكنها المتشبثة بسهم كيوبيد، محاولةً إنقاذ (روميو) بجلالة آلهة الإغريق، وراسمة ظلال المهرّج على ثغر المستحيل، متشفية من دمشقيٍّ عابرٍ لا يتقن مهنة الحبّ.
(شوكولا)؛ هي عتبة الكتاب النصيّة الأولى التي يجب على القارئ تخطيها وفك شيفرة غموضه، وهو عنوانٌ جاذبٌ، يثيرُ حفيظة القارئ، فالعنوان تقليديّ مُجتزأ من أحد نصوص المجموعة الحاملة لاسم لوح شوكولا.. فالشوكولا -كما هو معروف- تتميز بتغير أمزجة البعض بما تحتويه من موادٍ تدفع الاكتئاب، وتبعثُ في نفس آكليها السّعادة والفرح.. والسّؤال هنا: هل تقصّد الكاتب رسمَ بوصلة معينة لقارئه تقوم على تحديد جهات السّعادة والشعور بالارتياح؟!!
ولاسيما في عالم الأنا المتداخلة والذاتية الحاضرة بشدة من خلال استخدامه ضمائر المتكلم وانخراط أناته في أنا الآخر المفترضة كحبيبة.. يقول في نص (أنت لي):
(لندخل هذا البحر
تقول:
أخشى الغرق وحدي
يقول:
ثم يضيئان..
أنتِ لي وأنتَ لي.
ويغمض نحل حكايته في وردةٍ ليلية
وينامان ليولدَ الزّمانُ..
والزّمان حكايةٌ.)
ومن اللافت جداً أثناء تقفّينا للمعاني والصّور؛ الحضور الغني للون والحركة والصّوت، مايشكّل ثالوث جمالٍ مميز:
(ترفع يدها،
لأصابعها شكل السنابل..
تختمرها الشمس بزرقة تجنّ،
فيجنّ الصدى في حركة الظلال
يتوّج الندى غناء البراري).
ويقول في قصيدة (تانغو):
(يتبعُ صهيلَ الكلام
في لونٍ رمادي
ينام بين ضلوعي.)
فكلا النصين نجد فيهما اللونين (الرمادي، الزرقة،) وكذلك الصوت (الصهيل، الغناء)، أما الحركة فقد كمنت في (ينام، ترفع يدها، حركة الظلال.).. كما حضر الرمز أيضاً في أكثر من مكان ليتداخل بقوة بتقنية التناص التي تقذفنا إلى قصصٍ وحكايا عتيقة، تستمدُّ عذوبتها من عشتار إلهة الحب.. وليس انتهاء بـ (الأوليمب) القائمة الطويلة لآلهة اليونان الإثني عشر، فهو يحملنا إلى عوالم خفية مدهشة.. ونُشير إلى أن التناص برز أيضاً من خلال العودة إلى يهوذا فقال:
(أنا طائر ما أريد
أجرحُ فخذي الأيمن
لأشفى من لعنة الدم بالدم يا يهوذا.)
وكان التناص الأجمل مع (حيرام) ملك صور، نحات حكيم.. قاده جهل الجهلاء إلى حتفه فقال الشاعر في (نصّ دمشقيّ لا يتقن ممارسة الحب): «ياليت لي صوت حيرام».. وكان أن استخدم أيضاً التضمين في أكثر من مكان، ما أعطى نصوصه حيويةً وأبعاداً معنوية، وطاقات شعورية هائلة.. كـ«لن أجدد التبعية لأحد».. هذا ما قاله يهوذا لرسول الحرب.. وبرز الرمز من خلال لغة الأرقام:
(ثماني خطوات بين عناق الحمام، وارتفاع الكون.. وليكن التانغو سريرنا الأبدي، ولتكن الثنائيات فلكنا إلى غامض شهوتك).
كما اختبرت حورية البحر شهوتها لتخرج القصيدة من ثالوث الشاعر، والمزمار والسماء الوحيدة.. فالرمزية هنا تتجلى في أبهى صورها.
وإذا ما توغلنا قليلاً في لغة النصوص؛ فاللغة جاءت شاعرية بمعجمٍ لغوي يميلُ إلى الماورائيات من جهة، وعالم الأساطير الإغريقية من جهةٍ أخرى، ناهيك بلغة المجاز المحلّق في عالم الاستعارة والصّور، وتوظيفها بما يخدم تصويرالجمال، وإظهارالمشاعر والأحاسيس والطّباق المتمثل بالتضاد الذي يعكس الحالة الانفعالية للشاعر، ومن ثمّ التنافر الذي على حدته تأتلف فيه المعاني، وتتراقص على جنباته الصور الشعرية والكنايات من مثل« (البرّ المروّض بالخطايا)، (سنابل تمشي فوق كتفيك)، (الحبّ يمشي)، (نمش الغناء يعوي) استعارات مكنية بمشبه بارز، ومشبه به محذوف متروكٌ شيءٌ من لوازمه على سبيل الاستعارة المكنية.. كما حضر التشبيه بأكثر من نوعٍ مبيناً جمال وقيافة التصوير: (مرّي على جسد المفردة،) تشبيه بليغ إضافي، وكذلك: (وسادة رأسي، ظلي أعرج) بليغ.
استوى الظلّ بتول من نعاس.. (الظل بتول) بليغ..
و(تزعق أفكاري بالصمت) تضاد.. وعند أيّ جمال ترميك صور من قبيل (صرير الليل، وحارس الفناء، تمتطي القافلة ركابها..).. وقد حضر الخبر والإنشاء للتعبير عن حالة الشاعر الانفعالية والنفسية من قبيل:
(ياشاعر) ،إنشاء نوعه نداء.. و(خذ بيدي لي ياسمين فيك لايذبل).. نوعه إنشاء..
وسنتوقف عند الحبّ الذي أفرد له الشاعر قصائد طوالاً بعذرية العرض المتمثلة بتداخل الأنا تارة، وبجرأة بدائيّ عتيق منسكب اللمى على جسد القصيدة، ولم يمنعه ذلك من تصوير مشهد انفصالٍ في أحد النّصوص :
(أحبّك، أحبّكِ
والتقى التوءمان
كانت الحياة مقبرة بيننا،
جئنا طفلين،
كبرنا على ساعةِ يدٍ
حين اتسع المدى
مضى عقرب الوقت
وافترقنا..)