الموسيقيّون الكلاسيكيّون في سورية.. نحن نعلّمهم والغربُ يتلقّفهم
تشرين-سامر الشغري:
أعاد إلى ذاكرتي رحيل المايسترو نوري رحيباني المغترب عن وطنه منذ ستين عاماً، ذلك الحديث الذي سمعته من أساتذة روس في المعهد العالي للموسيقا نهاية عام 2017، خلال إقامتهم ورشة تدريبية لطلاب المعهد.
لقد أخبرني هؤلاء الأساتذة عن حنقهم وانزعاجهم الشديدين، لأنهم كانوا كلما سألوا عن طالب أو خريج نابغ قاموا بتدريسه في سنوات سابقة، قيل لهم لقد هاجر إلى خارج البلاد، وهو الآن يعمل في ألمانيا أو فرنسا وغيرهما.. لقد قال لي وقتها بعض هؤلاء الأساتذة «لم نأت إلى سورية ونعطي من حياتنا أعواماً لندرس طلابها الموسيقا، حتى يهاجر هؤلاء تاركين وطنهم آخذين معهم خبراتهم وإلى أين؟ إلى أوربا الغربية»، والتي بينها وبين روسيا ما صنع الحداد.
والواقع أن المايسترو رحيباني الذي غادر سورية بمنحة من وزارة التربية منذ عام 1960، وعاش في ألمانيا منذ تلك الفترة، ما هو إلا واحد من قافلة طويلة من الموسيقيين الكلاسيكيين السوريين الذين درسوا الموسيقا هنا، ثم سافروا للخارج لإكمال الدراسة أو العمل وأصبحوا جزءاً من المجتمعات التي هاجروا إليها، بدءاً من الأخوين ضياء ونجمي السكري وبسام نشواتي وشقيقته لمى، ودانيا الطباع وزيد جبري وكنان العظمة وأراكس تشيكجيان ولبانة قنطار ورشا رزق ولينا شماميان وشادي علي وسنثيا الوادي وديما أورشو والقائمة تطول.
ومن مفارقات هذه الهجرة الموسيقية المزمنة واقعتان حصلتا خلال قيام فرقتين سوريتين برحلات في أمريكا وأوربا قبل الحرب وأثناءها، حيث ترك بعض العازفين فرقهم وسافروا، وكأني بهؤلاء وجدوا في تلك الرحلات ممراً يساعدهم على تحقيق حلم الهجرة وتوفير ثمن بطاقة الطائرة والفيزا.
لقد كان إعداد وتدريب هؤلاء الموسيقيين أمراً صعباً ومضنياً، اختصت به مؤسسات الدولة، وأنفقت عليه بسخاء، إذ يدرس الطلاب مدة اثنتي عشرة سنة متواصلة في معهدي صلحي الوادي «العربي سابقاً» والعالي للموسيقا، ويتعلمون العزف على آلتين على أقل تقدير على يد خبراء سوريين وأجانب، ليجدوا بعد التخرج أن الأجر والراتب الذي يحصلون عليه أقل مما يستحقون، فيسعون للهجرة، باتجاه دول تتلقفهم وتعطيهم رواتب أعلى لأنها تنظر إليهم كالكنز الثمين.
هذا الدعم الرسمي غير المحدود لتدريس الموسيقا الكلاسيكية الذي كان وراءه عرابها في سورية المايسترو الراحل صلحي الوادي، وتسبب بغيرة رواد الموسيقا الشرقية كما أخبرني بذلك مرة الموسيقار الراحل سهيل عرفة، كان أيضاً أحد أسباب هجرة الفنانين الأكاديميين لأنهم مؤهلون بطريقة ممتازة وأجورهم أقل مما يطلبه نظراؤهم الغربيون.
ولكن رغم هذا النزيف المستمر في الخبرات، فإن شعلة الموسيقا الكلاسيكية في سورية لاتزال مشتعلة، مع عازفين ومؤلفين ومغنين وقادة فرق، لم تغرهم العروض ولم يحبطهم تدني الأجور، فظلوا يشتعلون حماسة على المسرح ويضيئون الطريق لمن سيأتي بعدهم.