وليد عبد الرحيم في رصده.. لـ«ماجد خليل الحلو» لإثبات إنسانيّته!!
تشرين- علي الرّاعي:
في جلسات التعذيب كثيراً ما يُهدد المعذِبون المعَذَبين بعبارةٍ مُرعبة: «سأنسيك الحليب الذي رضعته..»، بمعنى أقل ما يُمكن من نتائج التعذيب؛ هي فقدان الذاكرة والجنون..
غير أنّ هذا التعذيب، ورغم هول وحشيته، جاءت نتائجه على (ماجد خليل الحلو) عكس مآرب معذبيه وجلاديه، وكان مع كل وقعِ سوطٍ يعضُّ جلده، تشتعل نارُ الذاكرة ولا تخبو، وكأنها لا تعترفُ برمادٍ، حيث كان يجعلها تفورُ بأدقِّ التفاصيل، لدرجة العودة للفضاء ما قبل تشكله ككائن من صنف البشر.. يومَ كان كائناً خامداً ومُحتملاً في ثمرة مشمش غير ناضجة على شجرةٍ في ساحة الدار في مُخيم اليرموك بدمشق؛ حين تناولها من سيصيرُ أباه (خليل الحلو) إثر عضّة جوع حادّة لتُشكّل خلاصتها (حيواناً منوياً) كان سبّاقاً لتلقيح بويضة في رحمٍ موحش لامرأة، والتي ستصيرُ لاحقاً أمه، وتُشكّل شخصية (ماجد خليل الحلو) بكلِّ هذه الذاكرة المُترعة، والتي ظلّت تُصارعُ طول جهادها لتثبت لكلَّ من حولها، بأنّ صاحبها ليس بحيوان، هنا وكأنّ الذاكرة نواةٌ لا تتبدّل، مهما بلغت من التحولات الجينية.
هنا سيتماهى – وعلى غير العادة – ثلاثةٌ من الساردين: الراوي والسارد والروائي في راوية (لستُ حيواناً) للكاتب وليد عبد الرحيم الصادرة مؤخراً في طبعتها الثانية عن دار دلمون الجديدة بدمشق.. بما يوحي أو يُشبه السيرة الذاتية، ولاسيما أن الرواي كان طول الوقت؛ هو العليم الوحيد، وناقل الحدث والأحداث عن لسان الجميع من خلال ذاكرة تتدفق كنهرٍ من علٍ من دون أن تعرف مياهه جريان السهول، والرواق، وإنما هي حياةٌ عاصفة لا تلوي على سكون.. رغم نفي المؤلف عن الرواية هذا الإيحاء، أي أن تكون رواية سيرة حتى وإن ورد اسمٌ ما، في جنباتها.
لكن، وإن لم تكن رواية (لستُ حيواناً) من نوع السيرة الذاتية، غير أن الكثير من وقائع وأحداث الرواية، يُمكن أن تضع جانباً ليس يسيراً منها في خانة الواقعية الجارحة التي كانت تفوق الخيال تخييلاً، وإذا ما دخلنا في مناخات الواقعية والخيال، فسيلتمس قارئ الرواية أكثر من مستوى للسرد.. فهناك سردٌ لأحداث مُعينة جعلتنا نعرف الإطار الزماني والمكاني للأحداث، وهي زمن الحرب الأهلية في لبنان، وحيث كلٌ يفتكُ بالآخر من طوائف وأحزاب واتجاهات، وهناك (إسرائيل) التي تسعى للفتك بالجميع من خلال إشعال الإجرام والتنكيل بين (الإخوة الأعداء)، بين منظماتٍ وتنظيماتٍ وأحزاب فيما بينها، وذلك من خلال قيامها بنفسها للإجهاز على من بقي حياً.. بينما توزعت الأمكنة بين مخيم اليرموك في دمشق، وكل محاور المعارك في بيروت.. غير أنه ورغم كل هذا التحديد، فإنّ الرواية ليست تسجيلية كما قد يوحي استنتاجنا السابق، بل إن عنصر الخيال يدخلُ في جنباتها من كل الجهات حتى ليُخيّل للقارئ أن الرواية تدخل في مناخات السوريالية الصرف أحياناً، وفي فضاء الأسطورة تارة أخرى، وطوراً في أجواء الأحلام من الوردية منها وصولاً حتى الكابوسية.. إنها رواية عن الحرب، أو تدخل ضمن منظومة (أدب الحرب)، وصاحبها يكتبها بعد عتيٍّ مضى على تلك الحرب اللعينة، بمعنى ليس ردّة فعل، أو موقفاً ما، وليس تسجيلاً مباشراً لما يجري.. وإنما كانت الرواية رؤية ومُعادلاً إبداعياً لما جرى، ولأنها الحرب، ولأنّ ما يجري خلالها من مستويات تفوق الخيال، كانت كل هذه الأنساق من السرد ودفعة واحدة، إضافة إلى تساوق ثلاثة أزمنة تجري معاً وفي آن واحد على الأقل.
المستوى الأول اعتقال (ماجد خليل الحلو) التابع لإحدى المنظمات الفلسطينية من قبل فصيلٍ لبناني مُتعامل مع العدو الإسرائيلي، وخلال التعذيب تحضر المستويات الأخرى والمعارك التي يشنها فصيل آخر على مخيمي (صبرا وشاتيلا) بالسلاح الأبيض، إضافة إلى المعارك غير المتكافئة مع قوات العدو على الشواطئ اللبنانية خلال عمليات الإنزال، وهناك مستوى شفيف يتجسد بعلاقة حب أشبه بالسراب تنشأ بين (بطل الرواية) و(منال باكير) التي يهدي الكاتب الرواية لروحها، والتي تقضي خلال مجازر صبرا وشاتيلا المروعة.
هكذا يحشر وليد عبد الرحيم (الأزمنة) دفعةً واحدة، حتى تكاد الأمكنة تضيقُ عليها، في تجسيدِ رحلة قهرٍ حارقة لكائنٍ أوجدته المصادفة ليتشكل على هيئةٍ بشرية، وكان من حظه العاثر أن ينشأ في الجغرافيا الآثمة، هنا حيث التاريخ لا يرحم أحداً من إيقاعه المُخيف، لتبدو الشخصية – ماجد خليل الحلو – رمزاً لكلّ هذا القهر في العالم، والذي كُثفَ هنا في هذا الحيّز من الجغرافيا، وهو ما تُسجله السحجات والكدمات والجروح، والكسور ليس على جسده فحسب، بل وتئن بها كُلّها روحُهُ.
ربما من هنا، ينوّه وليد عبد الرحيم قارئ روايته بقوله: «أرجو من كلِّ قارئ عدم تناول هذه الرواية بعين تستبقُ احتمالات شكلها، أو مضمونها، فالشكل الذي نسجتهُ هذه الرواية من حيث البناء الشكلاني والسرد والتعبير، وقد أردتُ الاستفادة من خبرتي المتواضعة في النثر والشعر والسينما، وبعض المرتكزات الأخرى..». والحقيقة، أن ما أشار إليه المؤلف في نهاية التنويه، تجسّد بحرفية يُغبطُ عليها في هذا التقطيع بين المشاهد للشخصية التي تحضر من أزمنة مُختلفة، كلُّ ذلك بلغة مشهدية عالية، مازجت في سردها بين مستويين، مستوى ينوس ليصل اللغة المباشرة ولاسيما في نقل الوقائع الحقيقية، ثم تسمو اللغة في المستوى المُقابل لتنافس القصيدة في شعريتها، وهو كثيراً ما يحاول الفصل بين هذه المشاهد بقصيدة آخر كلمة منها، يبدأ بها المشهد الجديد، أو التالي.