مسلسل «براندو الشرق».. متعةٌ دراميّة عالية
تشرين- بديع صنيج:
مذهل الفنان جورج خباز كيف يستطيع أن يفرض عليك محبته، والانجذاب إلى كل ما يصنعه كاتباً وممثلاً، وخير دليل على ذلك ما صنعه مؤخراً في تأليف وبطولة مسلسل «براندو الشرق» بالشراكة مع المخرج أمين درة، (إنتاج شركة سيدرز آرت «الصباح إخوان») إذ لم يكتفيا بالتغريد خارج السرب درامياً، بل انتشلانا من واقعنا ككل، معيدَين الألق إلى الدراما المُسلِّية، والمتعة الراقية، وذلك عبر انتقاد عمليات الإنتاج الدرامي ذاتها، من خلال قصة أقل ما يُقال عنها إنها جذَّابة وذكية ومُغايرة.
عشر حلقات مشغولة وفق تقنية «الدراما داخل الدراما» أو ما يصطلح على تسميته «ميتا دراما» نقلتنا بين الأجواء الواقعية للتسعينيات في لبنان وزَمَن الستينيات المُتخيَّل لفيلم «الرصاصة الصامتة» الذي رغب الكاتب والمخرج يوسف (جورج خباز) بتحقيقه، بعد تخرجه في قسم الإخراج، وعَمَله أكثر من اثنتي عشرة سنة في أحد الأقبية المخصصة لأجهزة الإضاءة السينمائية والتلفزيونية.. وبالانتقال من منتج إلى آخر لتأمين تمويل الفيلم تتكشف لنا ذهنيات وآليات تفكير غرائبية تتحكم بعملية الإنتاج، فهذا يحب الكوميديا، وثان يُفضِّل الدراما الحزينة، وثالث يُحبِّذ مشاهد الحب والإكثار من القُبَل، وآخر ينجذب للأكشن، ورابع يرى أن على البطل أن يكون سورياً والبطلة لبنانية، ورغم أن الفيلم المُراد إنتاجه يشتمل على خلطة غريبة عجيبة من كل ذلك، إلا أن يوسف يفشل في إقناع أحدهم بتبنّيه، إلى أن يلتقي بسكرتيرة أحدهم (طلال الجردي) ويُقنِعها بأن دور البطولة النسائية يليق بها، ويصادف أنها عشيقة صاحب الشركة، فتقوم بتأمين كل الموافقات اللازمة شريطة أن يكون شريكها في البطولة النجم خالد صلاح المُلَقَّب ببراندو الشرق (جسَّده جهاد سعد).. هنا تبدأ رحلة البحث عن براندو، للحصول على موافقته، وخلال ذلك تعترض المخرج الصاعد يوسف العقبة تلو العقبة، لكن من دون أن تثنيه عن تحقيق شغفه بإخراج فيلمه الأول، وعبر الكثير من مواقف الكوميديا السوداء التي يمر فيها، يكتشف أن بحثه ذاك، كان بحثاً عن ذاته التي تاهت في دهاليز الحياة التي فُرِضَتْ عليه من قبل والده (كميل سلامة) بعد وفاة أخيه الذي حمل اسمه، فبات يتقمَّص شخصية غير شخصيته استرضاءً لأبيه الذي يُحمِّل نفسه ذنبَ موت ابنه، وأيضاً ابتكر في خياله أختاً تُسانِده وتكون صوت ضميره (لورا خباز)، ولاسيما بعد وفاة أمه بجرعة زائدة من حبوب مهدِّئة للأعصاب.. وفي مواجهة كل ذلك يزداد إصراره على فيلمه وتحقيق ذاته من خلاله، ويتزامن ذلك مع انتقال شغفه إلى من حوله، فيواربون مصائرهم في سبيل ذلك: أبوه الذي آمن أخيراً بحلم ابنه، زميلته سلوى (أمل عرفة) المغرومة به باتت تفعل المستحيل لمساعدته والأهم لتبقى قريبة منه، صديقا طفولته (إيلي متري، فؤاد يمين) باتا خيرَ سَنَدٍ له، اعتذاراً عن أحد مقالبهما السخيفة به، ورغبةً منهما في الكسب المادي المجزي.
وعندما ازدادت ضغوطات شركة الإنتاج التي رضيت بإنتاج الفيلم، ولم يبقَ لديه الكثير من الوقت لتنفيذ شرطهم الأساس بالحصول على موافقة براندو الشرق، يُزوِّر توقيع النجم المشهور، ويُفبرِك بمساعدة أصدقائه لقاءً يمدح فيه خالد صلاح المخرجَ الصاعد يوسف ويعلن عن رغبته الشديدة في العمل معه، ما منحه فسحة زمنية للبحث أكثر عنه، وفي سبيل ذلك يتعرَّف على لمى (ميا سعيد) ابنة الفنان الكبير، لكن وقوعه في حبِّها يقلب طاولة حياته رأساً على عقب، ما جعله يُفضِّل ذاك الحب على شغفه بالفيلم، وما إن يُعلِن ذلك لصديقيه، حتى ينقلبا ضده ويدفعا سلوى لأن تكشف لها ما خفي عنها.
وفي نهاية القصة، وبعد انهيار علاقة يوسف بلمى، يلتقي الأب مع خالد صلاح في أحد المقاهي الشعبية بعدما عَلِمَ بوجوده يومياً فيه من ابنه الذي لم يعد مكترثاً بشغفه السينمائي، وتأتي المفاجأة بقبول براندو الشرق التمثيل أمام كاميرا ابنه، خاصةً مع حكاية الأب عن المكابدات التي عاناها يوسف للوصول إليه، واعتراف الفنان النجم بأنها في حدّ ذاتها جديرة لأن تكون ضمن عمل درامي، وفي يوم التصوير الأول يرضى الجميع عن مآلاتهم، ويتصالحون مع واقعهم الجديد، بمن فيهم صاحب شركة الإنتاج الذي عشيقته لأنه اكتشف خيانة السابقة مع خالد صلاح، وليبقى مصير العلاقة الجميلة بين رامي ولمى مجهولاً ومأسوفاً عليه.
ورغم أن المسلسل لا يتقاطع مع أزمات الواقع اللبناني الراهن، فإنه ينتقد عمليات الإنتاج الدرامي عامةً، بما فيها الشركة التي أنتجته، وهو ما شكَّل فضيلةً وميزة إضافية، ولاسيما مع بصمة المخرج أمين درة وإدارته المميزة للممثلين وبقية كادر العمل، ومواءمته الجمالية بين زمنين للنص، ورصده لأدق مشاعر الشخصيات التي أدَّاها الممثلون بتبنٍّ حقيقي وأداء صادق وعفوية آسرة، بما في ذلك السخرية من أساليب الأداء وآليات التصوير التي تجسدت في مشاهد فيلم «الرصاصة الصامتة» الذي يحكي قصة رجل يريد الانتحار، فيشتري مسدساً بالتقسيط، ويؤجل انتحاره لفترة من الزمن، ريثما ينتهي من دفع الأقساط المستوجبة عليه، وأثناء ذلك يتعرف على العاملة في متجر الأسحلى تدعى سما، وتبدأ قصة حب بينهما تنتهي بالزواج، فيلغي فكرة الانتحار، لكن بعد سنة، تنتحر سما عوضاً عنه.. أي أنه بين التَّجَبُّر والانكسار، الصدق والبراغماتية، الاستسلام للواقع ومراوغته، الشغف وتجاوز العقبات التي تقف في طريقه، المواجهة والاختباء وراء الصمت، كان «براندو الشرق» وجبة درامية كاملة الدسم، ولفرط حساسيتها وذكاء صُنَّاعها ورهافتهم وظُرْفِهِم المديد، استطاعت المتعة أن تتغلغل في قلوب معظم المشاهدين وهم يرددون مع جورج خباز أغنيته التي صنعها لحبيبته «بيقولوا الدنية حلوة.. ها الجملة شو بسمعا.. وأنا من بلوة لبلوة مش قادر امشي معا.. بكتب قصص بطير بجن.. بنسى بفيق بلين بحنّ.. بسافر بخيالي وبالفن.. بلكي بقدر ابلعا.. بيقولوا الدنية حلوة.. مش قادر امشي معا».