كرة القدم هي الحياة.. بين إدواردو غاليانو ومحمود العدوي
تشرين- بديع صنيج:
على خطا إدواردو غاليانو في كتابه “كرة القدم بين الشمس والظل” الذي أقرّ فيه أن تلك اللعبة بمنزلة “المعجزة”، وجُلّ ما يتوسَّلُه منها هو “اللعب الجميل”، بغض النظر عن النادي أو البلد الذي يقدم ذاك اللعب، فإن الكاتب المصري “محمود العدوي” يسعى من خلال كتابه “إحدى عشرة قدماً سوداء” وبعنوان فرعي “عندما يلعب المضطهدون كرة القدم” (دار الطليعة الجديدة- دمشق) لمواصلة نهج غاليانو ذاته، مع تغيير النطاق الجغرافي، وتعزيز دور السياسة في كرة القدم، إذ يؤكد أن “عشق كرة القدم يجعله -مع الملايين من عشاقها- يعيشون بدل موتهم في ظل عسف السلطات، واصفاً أولئك العُشَّاق بأنهم “صُنَّاع تلك المأساة الممتعة، ملهاة المقهورين، هؤلاء الذين يناضلون في الذهاب لمبارياتها أكثر حماسةً من ذهابهم للتظاهرات والاحتجاجات كي يدافعوا عن خبزهم.. يقاتلون من أجل الحصول على الفرجة الوحيدة التي يدركون بأنها لن تسرق منهم مثلما سرقت ثرواتهم”.
ومثلما يرى الكاتب الأرغوياني بأن “هذه الرياضة تحولت إلى واحدة من أكثر الأعمال التجارية ربحاً في العالم، لا يجري تنظيمها من أجل اللعب وإنما من أجل منع اللعب”، ما جعل تاريخ كرة القدم برأيه “رحلة حزينة من المتعة إلى الواجب”، إذ كلما تحولت هذه الرياضة إلى صناعة، كان يجري استبعاد الجمال الذي يتولد من متعة اللعب لمجرد اللعب، وهذا ما حصل في نوادي أمريكا اللاتينية وفي العديد من المونديالات التي تحدث عنها “غاليانو”، وأيضاً في كثير من مباريات الأندية الإفريقية وفي كأس الأمم الإفريقية خلال ستين عاماً، ويرجع “العدوي” ذلك إلى أن كرة القدم لم تبتعد عن السياسة التي لم تتوقف عن الاضطهاد، ونتيجة ذلك “تحولت كرة القدم من حلم إلى سلعة، ومن بهجة إلى تعصب، لكن كل ذلك لم يمنع الشعوب الإفريقية عاشقة تلك اللعبة من صناعة البهجة بنفسها” حسبما يقول الكاتب المصري.
وإن كانت كرة القدم مسرحاً تضع له الفيفا واتحادات اللعبة الخط العام الذي ينبغي السير وفقه، فإن هناك الكثير من اللاعبين أشبه بـ”ممثلين يُفضِّلون الارتجال” وعدم الاحتكام للنص الموضوع سلفاً، وبمهاراتهم الفردية وروحهم الفريدة أعادوا صناعة مجد اللعبة، وخلقوا متعاً ما بعدها مُتَع، واستطاعوا أن يزيحوا الزيف جانباً، ويُعلوا من سلطتهم على حساب سلطة المُتحكِّمين بالمستديرة، مُزهقين روح المَلل التي باتت تتسلل إلى المباريات عنوةً، وبذلك أعادوا المتعة إلى نصابها، ضاربين عرض الحائط بكل ما يجعلهم مجرد آلات ميكانيكية تحت الطلب، إذ واجهوا “تكنوقراطية الرياضة الاحترافية” التي فرضت كرة قدم تعتمد السرعة المحضة والقوة الكبيرة، لكنها “تستبعد الفرح، وتستأصل المخيلة وتمنع الجسارة”، بتعبير غاليانو، الذي برع بالحديث عن مارادونا وزيكو وغيرهما من أعمدة الكرة اللاتينية، ليكمل “العدوي” على الوتيرة نفسها في إذكاء الضوء على كثير من أسماء الخارجين عن النص في القارة السمراء، مُعدِّداً مناقبهم وأوصافهم، وإسهاماتهم في رَوْحَنَة اللعبة، وضخ دماء الفرح في شرايينها، وإنعاش الأمل في تفاصيلها، ومنهم: الكبش “حسين لالماس”، “مولامبا” الذهب الزائيري، “أوبوكو نيتي” زيكو الإفريقي، “آرثر وارتون” أول لاعب في تاريخ إفريقيا يلعب كرة القدم في أوروبا، و”جورج وايا” لاعب الكرة الذي أصبح رئيساً لليبيريا عام 2018، وغيرهم الكثير.
وكما أن الماركسي الإيطالي أنطونيو غرامشي امتدح كرة القدم باعتبارها “مملكة الوفاء البشري التي تمارس في الهواء الطلق”، وكما تعلَّم الأديب الفرنسي “ألبير كامو” من لعبه كحارس مرمى في فريق مدينته، بأن يكسب من دون أن يكون إلهاً، وأن يخسر من دون أن يشعر بأنه قمامة، إلى جانب تعلُّمه بعض أسرار الروح البشرية، وكيف يدخل ضمن متاهاتها في رحلات خطرة على امتداد كتبه، فإن “العدوي” ثابر في كتابه على الكتابة عن العديد من تفاصيل كرة القدم، جاعلاً منها ملحمة معاصرة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، فها هو يصف “مباراة الديربي” مثلاً بأنها “الثنائية الخالدة، إنها الخصومة الأبدية، العداوة التي لن تنتهي حتى ولو انتهى الكون، هؤلاء الذين يذهبون في يوم الديربي إلى المعلب، ليس لحضور المباراة، بقدر ما هو احتفال وثني لحرق الخصوم، وإلقاء أجسادهم في نيران الفشل والعار.
الديربي ليس مباراة، بقدر ما هي اختبار للقدرة على التحمل، للموت فرحاً، للموت حزناً، للإبداع في سب الآخرين بألفاظ ليست موجودة في قواميس اللغة.
الديربي هو الحياة بذاتها. ليس هناك ملحمة بشرية بقدر الديربي في الحضارة الإنسانية البائسة”، وبقدر ما يُعلي من شأن اللاعبين ومهاراتهم، فإنه يضع في مرتبة أعلى منهم “الجمهور” الذين يجلسون في المدرجات، يحملون سيوفاً من الأبواق ودروعاً من القمصان الملونة بشعار النادي، ويغنون أغاني المعارك من أجل الانتصار، واصفاً إياهم بأنهم “الرواة الحقيقيون لتاريخ اللعبة، حافظو سيرتها وأحداثها وأسرارها، ومن دونهم ستكون المباراة عادية، لا تزيد عن كونها مسابقة للركض بين اثنين وعشرين لاعباً، وثلاثة غربان أحدهم ينعق بصفارته طوال الوقت”، يقول: “نحن الجمهور أصحاب الذاكرة في غياب كتب التاريخ الرياضية، أصحاب الخيال الخصب حينما تنضب التمريرات الرائعة، وحينما تغيب الأهداف المعجزة، نحن الجمهور، من يتذكر أرقام اللاعبين وأسماءهم وتواريخ مشاركاتهم في المباريات العادية قبل المهمة. لا نتذكر فقط من كانوا في قلب الملعب، نتذكر أيضاً أولئك الجالسين على مقاعد البدلاء والإداريين والفنيين”.
يتحدث “العدوي” أيضاً عن حارس المرمى، ليس بوصفه “غراب البين” الذي يمنع الأهداف بعكس الهدّاف صانع الأفراح كما يلفت “غاليانو”، بل لكونه صاحب أصعب الأدوار في المباراة، فهو “ضحية الأخطاء، حصّالة الأهداف، المخطئ دائماً، المُقيَّد من دون قيود، المسجون داخل الخطوط البيضاء، لا يُرضي أحداً حتى حينما يكون اليأس هو المتاح والخسارة هي المتوقعة. هو المميز في اللون والمميز في الإساءة”، بينما يصف علاقة الأفارقة بالمدرب بأنها أقرب ما تكون إلى تاجر العبيد، فهو ينتقي الأقوياء الأصحاء المبهرين كي يقوموا بالعرض في الملعب بعيداً عن الفوز أو الهزيمة، لأن الهدف الأول هو بيعهم في أسواق أوروبا أو في أي مكان آخر، قائلاً: “إنها أسواق نخاسة”، ولهذا يعدّ أن الهزيمة في كرة القدم لا تعني سوى الخيانة عند السلطات السياسية لتبرر فشلها في كافة المجالات الأخرى، ولهذا نلاحظ قسوة الكاتب المصري في مقارنته بين السياسة وكرة القدم وتفضيل الأخيرة بالنسبة للمقهورين قائلاً: “نحن في إفريقيا طوال الوقت نتحدث عن كرة القدم، لأننا لا نستطيع أن نتحدث في السياسة. نحن نختار الفرق التي نشجعها إلى أن نموت، لأننا لا نستطيع أن نختار رؤساءنا. نحن ننتقد بكل قسوة، وأحياناً بكل وقاحة حكام المباريات، لأنهم لا يملكون القدرة على أن يسجنونا، ولهذا نحن نعشق كرة القدم، لأنها تجعلنا نعيش”، ولأنه يرى أن الاتحادات الرياضية لكرة القدم في إفريقيا ما زالت تعيش في رداء المستعمرات، فإنه ينتقد النظام العالمي الذي أوجد لنفسه ظلاً يناسبه اسمه “الفيفا”، “هذا النظام رغم أنه لا يريد التمييز، لكنه دوماً، ومن خلال شركة صناعة كرة القدم، أحب أن يكون لسنوات طويلة لون الكرة أبيض وحذاء اللاعبين أسود”. يقول العدوي، ويضيف “ورغم كل مقولاته الجذابة والبراقة والمدججة بالمعاني الإنسانية الجميلة، ما زالت كرة القدم بيضاء، ولن تكون أبداً سوداء”.
لكن برأي الكاتب المصري أن كرة القدم تنتصر في النهاية، مستشهداً باستاد “مختار التتش” و”حلمي زامورا”، فهما الاستادان الوحيدان في مصر اللذان يحملان اسمي لاعبي كرة قدم، من أبناء الطبقة الوسطى واللذين لم يشاركا في أي شيء غير كرة القدم. لم تستطع الدولة أن تغيرهما إلى استاد الأهلي والزمالك، فظلا صامدين بذكراهما تخليداً لكل تلك السعادة التي منحاها في يوم ما لملايين الأشخاص من الشعب المصري.
كما أن الشارع الذي يحمل اسم اللاعب “حسين حجازي” ويحتضن مبنى مجلس الوزراء، هو الشارع نفسه الذي استضاف مسيرات الاحتجاج منذ 2006، وفي 2011 ولأول مرة تجمع مشجعو الناديين في ذاك الشارع ليعلنا دفاعهما عن الثورة المصرية والمطالبة برحيل حسني مبارك، فكرة القدم ولاعبوها أكثر قدرة على تحريك الوجدان، والتوغُّل في الذاكرة، ومناصرة المظلومين، وإعلاء شأن العدالة، رغم العديد من المباريات التي تدخلت فيها السياسة فكانت فيها “الخسارة بالأمر المباشر”، أو “لأسباب أمنية وسياسية”، وفي أخرى كان الانسحاب من المباراة “بقرار رئاسي”، لتبقى كرة القدم في النتيجة كما يراها “العدوي” لا تختلف كثيراً عن الحياة، “فالجميع ينزل إلى الملعب يريد الفوز، لا أحد يقبل الخسارة قبل أن تحدث، ولكن حينما تحدث، وهذا أمر واقعي لا يمكن المفر منه، نجد أناساً يتقبلونها وأناساً آخرين يرفضون ذلك. ولكن ما بين هؤلاء وهؤلاء، لا تتوقف اللعبة، ولا يتوقف المهاجمون الموهوبون عن إحراز الأهداف من أنصاف الفرص، ولا يتوقف المدافعون البؤساء عن ارتكاب الأخطاء، إنها اللعبة التي لا تتوقف إلّا حينما يحرز أحدهم هدفاً أو يرتكب أحدهم خطأ، ولغير ذلك لا يتوقف أحد عن الركض، هي الحياة، متعبة، ولكنك لا تستطيع أن تمنع نفسك من عشقها والتمسك بها حتى النفس الأخير”.