عادل محمود في رحيله “إلى الأبد.. ويوم”

تشرين- زينب عز الدين الخيِّر:
نستذكر اليوم رواية “إلى الأبد.. ويوم”، وهي الانعطافة الإبداعية الأخيرة، وأقصد كتابة الرواية التي ختم بها العقدين الأخيرين من حياته، بعد اشتغاله في الصحافة، والإبداع الشعري.. و(إلى الأبد.. ويوم) هي أولى ثلاثيته الروائية، وهي الرواية الفائزة بجائزة دبي للإبداع عن عام/ 2006 ،2007/ ، كنت اشتريتها منذ سنتين على ما أعتقد، وغاصت في رفٍ من رفوف المكتبة، بانتظار الوقت المناسب، الذي قد يأتي خاطفاً مراتٍ كثيرة، من دون أن ننتبه.. الآن وضعتها على طاولة القراءة، وقلتُ لنفسي: تأخرتُ / 15/ عاماً فقط، كبرت الرواية وصارت صبية ابنة أربعة عشر عاما؛ صارت أحلى.. هذا الفاصل الزمني، لا يلغي ضرورة الكتابة عنها، ليس لأن الرواية فازت بجائزة ما في يوم ما…أبداً! بل لأنها جميلة جداً.
الجديدُ فيها، أنَّ لا جديد فيها، لكن تنوّع الخصوصيات جعلها تضج بالبصمات الإنسانية؛ كخصوصية التجربة الشخصية للكاتب، والمعاينة الشخصية لأحداث مهمة جرت على المستوى العام للمنطقة، ومعرفة الكاتب الشخصية بكل أبطال الرواية على كثرتهم.. وهو يعترف من السطر الأول بأنهُ: “لا أحد بوسعه أن يقيدنا مثل القيد الآتي من التجسس على الذكريات”.. وتتضح للقارئ مباشرة صعوبة الخيارات التي واجهها الكاتب، فقد تراكمت الذكريات في وجدانه، بحلوها، ومرها، ثابتة لم يزعزعها فكر يساري، ولا تعبوي، أو حداثوي، وكأن الطفولة خارج مناطق نفوذ العقائد الوافدة إلى الأدمغة.
“إلى الأبد.. ويوم” ليست رواية بالمفهوم العام للرواية؛ أبطال، ومسارات، وأحداث، وسياقٌ عام، إنما هي جردة حساب قوية بين الكاتب وبين ذاكرته الأمينة على التفاصيل، فمعظم أبطاله يمرون بسرعة، كأن كل واحد فيهم حدثٌ بذاته، أو قد يكون الحدث بطلاً، حدثٌ غيَّرَ مجرى حياة عادية، لتصبح حالة خاصة، ليكون تجمع القرية في النهاية هو جملة حالات خاصة، تبدأ من الذي أسره الإسرائيليون، إلى الذي أسره اليسار والخيانات الفكرية، أو ذاك الذي أسره الاطمئنان إلى راتبٍ هزيل وحياة بائسة، قليلون منهم أسرتهم فكرة الارتباط بالأرض والبقاء في الضيعة، وهذا كله لم يفقد الرواية جاذبيتها، إنما حيَّرَ القارئ قليلاً، وجعلهُ يتساءل: “ما الذي حلَّ بفلان؟! من هو هذا الذي دخل السرد فجأةً مسلحاً بحكايته، ثمَّ طوى جناح الرضا بالدور السريع الذي أداه وانسحب؟!
لا يكتفي الكاتب بحكايات ضيعته، بل يستعين بتجارب سفره الطويل خارج البلاد، ما بين قبرص وتونس، أثناء عمله في مطبخ الإعلام الفلسطيني، وبعد اتفاقات أوسلو، حين “تعجزت أحلام المقاتلين لأجل القضية”، عاد إلى دمشق عام /1994/ وأصدر ديوانه (استعارة مكان).. وفي /ص164/ يتحدث عن رؤيته لمحنة الثقافة: “ثمة الديكتاتورية الموروثة من سلفٍ يوغل في القدم، وهي الوالدة الوحيدة ليمين ويسار هذا النوع، فكل معرفة أو إرادة تأتي من الأعلى هي ديكتاتورية، ونحنُ مذ كففنا عن إنتاج المفاهيم، اعتماداً على ما لدينا، وكان مفتوحاً على عصرنا، لم ننجح حتى في زراعة الشوندر، لقد كفَّ المثقف منذ وقت بعيد عن الإلهام، واكتفى بإيجاد شكلٍ غير مُدان، منافقٍ وانتهازي مع المهيمنين”. ليؤكد في الصفحة /166/ أننا “جميعاً كبشرٍ نجلس على حافة الهفوات”.. وفي ص/170/ يتحدث عن اختفاء أخيه منير وكيف كبرَ ولداهُ من دون معرفته، وشكّل صورة معنوية بالتجميع، موازيةً لصورة الرجل الوسيم المعلقة في البيت: “منذ اختفاء منير، فقدانه، استشهاده.. لا فرق، وهو يأتي إلى أحلامنا، دائماً يأتي في مناسبات مهمة”.. لقد ترافق غياب منير مع غياب الضابط كمال الذي اختفى، أو قتل في لبنان، لكن ثمة شهودا يقولون إن فصيلاً فلسطينياً احتجزه ولم يعد له أثر.. جاؤوا بجثمانه، لكن أمه رفضت أن تصدق: “وبعد الجنازة، وفي الليل، جاءت أم كمال ببضعة رجال، حفروا القبر، وأخرجوا الجثة من التابوت، فحصتْ أسنانه التي تذكر شكلها، وحدقت بصميم قلبها في أعضائه، وجهه وعينيه، ومفرق شعره ويديه، والندبة البنية على خاصرته.. فوجدت شخصاً آخر.. إنه جثة ما من هذا الكون، شخص له أم ولكنها ليست “أم كمال”، شخص مقتول برصاصة ولكنه ليس “كمال”، الذي غدا مذ تلك الليلة مفقوداً مؤكداً بعد أن كان شهيداً مؤكداً. وذهبت أمه إلى كل السماوات بدعائها، وذهبت إلى المنجمين، وضاربي الرمل، والشيوخ، والمشعوذين، وكلهم أكدوا أنه على قيد الحياة ومسجون في مكان ضيق وسيعود”. ص/ 171/.. ويتنبه الكاتب في الصفحة /194/ إلى فكرة: “أنَّ العالم كلهُ حكايات وأغانٍ وأهازيج وأنَّ الإنسان يتكون من استجابات مضاعفة للفرح، بينما الحزن يعبره في سرعة السهم لتكون الغربة ذكرى ألم”.. وعلى امتداد / 224 / صفحة من القطع المتوسط، يبث صوراً حية للمفارقات الحاصلة في الواقع بين المبادئ والسلوك، بين الهدف والوسيلة، بين الادعاء والممارسة ” كذبٌ واحتيالٌ، وجنس ومآسٍ عاطفية، وخيانات صغيرة”./ ص197 /.

الرواية عرضٌ جميلٌ بلغةٍ شاعريةٍ لكمٍ خرافيٍ من يوميات سلفت، وجدها الكاتب جميعها جديرة بأن تستعاد في رواية تؤرخ لذاكرة مجتمع صغير في قرية نائية، أواسط القرن العشرين، توزع هذا المجتمع وتبعثرت أشلاؤه في شتى أصقاع الأرض.. وتنتهي بعودة السارد من تجاربه، وحلِّه وترحاله، إلى قريته التي لاتزال جميلة رغم ما أصابها من تشوهات، وتلحق به “كسارة البندق”؛ المرأة التي كانت حبه الأول، أو ربما تطلعه الأول نحو الجنس الآخر، لحقت به بعد دورة غير قصيرة في متاهات الألم، وكان ذلك تكريماً لآلامها قد أعفاها من اسم حقيقي في روايته.. لجأا معاً إلى حضن الطبيعة الآسرة، والأساطير المعششة بين أشجار الغابة، وعلى ضفاف النهر وصخوره.. حيث لا جرح إلا وسيشفى
اقتباسات:
– ص /38 /: كنتُ معبئاً بفراغٍ قاتل، كأنهُ أكياسٍ من الرمل بين الضلوع، – ص/203/ : كان الليل كأنما يستعرض كم هو ليل والسماء مليئة، كما لا تكون إلا في الصحراء، بنجومٍ جذبتها الوفرة إلى الهبوط قليلاً إلى أسفل الحد السماوي، وتهبط أكثر كلما ازداد سواد الليل.. – ص210: وكانت القبلة، أشبه بما يحدث من حولنا: حفيف ورقتي دلبٍ في غصنٍ متدلٍ على الماء، زقزقة عصفور في دغل.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار
السفير آلا: سورية تؤكد دعمها للعراق الشقيق ورفضها مزاعم كيان الاحتلال الإسرائيلي لشنّ عدوان عليه سورية تؤكد أن النهج العدائي للولايات المتحدة الأمريكية سيأخذ العالم إلى خطر اندلاع حرب نووية يدفع ثمنها الجميع مناقشة تعديل قانون الشركات في الجلسة الحوارية الثانية في حمص إغلاق الموانئ التجارية والصيد بوجه ‏الملاحة البحرية.. بسبب سوء الأحوال الجوية صباغ يلتقي بيدرسون والمباحثات تتناول الأوضاع في المنطقة والتسهيلات المقدمة للوافدين من لبنان توصيات بتبسيط إجراءات تأسيس الشركات وتفعيل نافذة الاستثمار في الحوار التمويني بدرعا خلال اليوم الثانى من ورشة العمل.. سياسة الحكومة تجاه المشروعات متناهية الصغر والصغيرة والرؤية المستقبلية مؤتمر "كوب 29" يعكس عدم التوازن في الأولويات العالمية.. 300 مليار دولار.. تعهدات بمواجهة تغير المناخ تقل عن مشتريات مستحضرات التجميل ميدان حاكم سيلزم «إسرائيل» بالتفاوض على قاعدة «لبنان هنا ليبقى».. بوريل في ‏بيروت بمهمة أوروبية أم إسرائيلية؟ إنجاز طبي مذهل.. عملية زرع رئتين بتقنية الروبوت