“السوراقي” الأخير.. فيصل الياسري وقصة نبوغه في الشام
تشرين- سامر الشغري:
عندما نتحدث عن التعاون السوري- العراقي الفني سنجد أن عرّابه وفارسه الأول وصاحب أرقامه القياسية المخرج والكاتب الراحل فيصل الياسري، الذي لم يستطع أحد جاء بعده من أبناء الشام والرافدين تقديم هذا الكم من الأعمال المشتركة والناجحة.
الياسري، الذي ولد سنة 1933 في بلدة المشخاب بالعراق، شغف مبكرا بالقراءة والأدب، وفي سنوات شبابه الأولى انصرف إلى مراسلة الصحف، ووضع مجموعة قصصية وهو في مرحلة الدراسة الثانوية، وظل هاجس الكتابة يسكنه طوال سنوات عمره حتى بلغ عدد الكتب التي أصدرها تأليفا وترجمة 16 كتابا في مختلف صنوف المعرفة.
وبعد حصوله على الشهادة الثانوية سافر الياسري إلى النمسا ليكمل دراسته في كلية الطب، ولكنه أنف من دراسة هذا الاختصاص وأغمي عليه بمجرد حضوره درس التشريح، فبدل تخصصه وانكب على دراسة الإخراج وتقنيات السينما والإذاعة والتلفاز حتى نال ماجستير الإخراج السينمائي.
خلال تلك السنوات كان التلفزيون الشغل الشاغل للأوروبيين ، وخصوصا لجهة إعداد الكوادر القادرة على التعامل مع هذه الآلة الجديدة، لذلك وجد الياسري لنفسه بسهولة فرصا للعمل في عدة برامج ومسلسلات مع مخرجين ألمان لمصلحة تلفزيونهم الوطني.
وفي عام 1959 عاد الياسري إلى العراق، وبوصفه الأكاديمي الوحيد التحق على الفور بالتلفزيون العراقي، الذي افتتح قبل ثلاثة أعوام انذاك كأول محطة تلفزيونية عربية، ولكن الحال لم يستمر به طويلا إذ اضطرته الظروف والتقلبات السياسية في بلاده لتركها والسفر إلى دمشق، تلك المدينة التي طالما احتضنت أبناء العراق في محنهم، ليحقق الياسري إحدى أهم محطات نشاطه الفني برمته.
كان العمل الدرامي الأول الذي أخرجه في سورية (حمام الهنا) سنة 1968 للثنائي دريد لحام ونهاد قلعي، الذي كتبه الاخير مقتبسا فكرته عن قصة روسية حملت عنوان ” الكراسي الاثنا عشر”، وظل الياسري يؤكد أن هذا العمل الكوميدي رغم بساطته هو سبب شهرته، وكان لافتا أن يظهر في أول مشهد بحلقته الأولى ليقدم بطلي العمل، إضافة إلى الراحل رفيق سبيعي، وتحدث قبل وفاته بعام عن الصعوبات التي رافقت العمل لأنه صوره من دون عمليات مونتاج، وكان يجري يوميا حوارات بعد انتهاء التصوير مع الممثلين يستمزج فيه آرأءهم لتقديم الأفضل.
ورغم النجاح الهائل ل”حمام الهنا” توقفت مسيرة الياسري في الدراما السورية، لينتقل بعدها للسينما التي كانت تشهد عصرها الذهبي، فقدم أول أفلامه سنة 1971 بعنوان (عودة حميدو) عن نص للأخوين رحباني وبطولة ناجي جبر وخالد تاجا ومن مصر منى إبراهيم ونادية الكيلاني، والفيلم عموما ينتمي لأعمال التشويق والعصابات.
وفي فيلمه الثاني (هاوي مشاكل) إنتاج سنة 1972 دخل الياسري على خط التأليف إضافة إلى الإخراج، واستمر في أسلوب أفلام المطاردات والتشويق مع بطله المفضل ناجي جبر وشقيقه الفنان القدير محمود جبر وملك سكر ونبيلة النابلسي.
وانتمت أفلامه اللاحقة (غراميات خاصة) و(حب وكاراتيه) و(جزيرة النساء) للمدرسة ذاتها والأسلوب نفسه، محافظا على النمط الترفيهي، ليأتي فيلمه الأخير في سورية (عشاق على الطريق) محاولة جدية _ كما وصفها النقاد _ لتقديم الترفيه مع المضمون الفكري في الفيلم الذي أعد قصته عن رواية “ساعي البريد يدق الباب مرتين” للأمريكي جيمس كين، ولعب أدوار بطولته رفيق سبيعي وأديب قدورة وجلاديس أبو جودة من لبنان.
وكان التعاون مع دريد لحام هو المحطة الأبرز للياسري خلال عمله في سورية، إذ كتب له أربعة أفلام من غير أن يخرجها منها (مقلب من المكسيك)، كما ألف له لوحات من العرض الشهير ” مسرح الشوك،”، وكان يستشيره في الأعمال التي لم يكن الياسري مشاركا خلالها.
ورغم ان فيلم “عشاق على الطريق ” كان مسك الختام لرحلة الياسري في سورية لكن تعاونه مع أبناء الشام لم يتوقف، ولعل سلسلة (افتح يا سمسم) الشهيرة المثال الأكبر لهذا التعاون، فهذه السلسلة التي أخرجها الياسري على مدى عشرة أعوام وضمت زهاء 390 حلقة، استعان فيها بكتيبة من المبدعين السوريين من اختصاصات شتى، من كبير الكتاب ياسر المالح وفي الإشراف أسامة الروماني وفي التلحين والموسيقا والغناء حسين نازك وسمير حلمي و مصطفى نصري، والممثل توفيق العشا وآخرين.
ومن شواهد تعاون الياسري مع أهل الفن في سورية مسلسل “المرايا ” الذي أخرجه سنة 1984 عن نص من تأليف الكاتب والسيناريست السوري الدكتور رفيق الصبان، واختار لبطولته نخبة من الفنانين العرب في طليعتهم هاني الروماني ورشيد عساف.
لقد افتخر الياسري في آخر أيامه بأنه كان المخرج الوحيد الذي رضي الشاعر الكبير نزار قباني أن يظهر معه في عمل، عندما قرأ خلال مشهد درامي من فيلم (القناص) إنتاج سنة 1979 قصيدة من تأليفه أطل من خلالها على جمهور السينما للمرة الأولى والأخيرة.