آخر معارضه كان في دمشق مازن غانم يُودِعنا آخرَ رسائله المائية
تشرين-علي الرّاعي:
لم تكن الحياة كريمةً بما يكفي مع الفنان التشكيلي مازن غانم ليصل بغوايته اللونية إلى خواتيمها الجمالية كُلّها، فبين (1968 و2022)، تلك كانت فسحة العمر التي وهبتها الحياة لمازن، لأن يفرش دروبها بالألوان من (قسمين) في ريف اللاذقية إلى بعض دول العالم، وإلى دمشق التي أقام في إحدى صالاتها – عشتار- معرضه الفردي العاشر، والذي كان للأسف هوالأخير..
من جهتي، لم أتخيّل أن أجد نفسي في موقف (الراثي) لصديق طالما كان جهة القلب ووجهته، وكشخص قلّ من يحمل نبله وإبداعه، للدرجة التي انتظرت فيها وقتاً طويلاً، عسى أن يكون هذا النبأ غير دقيقٍ، لأني، وكما العشرات الذين رثوه وشيعوه إلى مثواه الأخير في قسمين؛ كانت كلمة (وداعاً) تماماً كحامضٍ في الحلق، وأتساءل مع الفنان موفق مخول:« لماذا هذا الرحيل المفاجئ يا مازن من دون وداع.. لقد أدهشني معرضك الأخير في صالة عشتار، وكانت ابتسامتك الجميلة، وحبك للحياة تقول إنك سوف تعطي أكثر، غير أنها مشيئة الله ياصديقي..»، أو أردّد مع الموسيقي والشاعر مروان دريباتي: «صعب التصديق، أن نقول وداعاً لصديق الماء واللون، وما أمكننا من حياة»، أو مع الشاعر دُمر حبيب الذي جاء رثاؤه حاراً، تماماً كألوان لوحة انتهى من آخر ضربة فرشاة على بياضها: «في مرسمه ومنذ سنين، تأملتُ العديدَ من لوحاته، ثم «خربشتُ» على وجهها الآخر بعضاً من عباراتي.. كان يقرؤها، ثم يرسمُ ابتسامته بالطريقة ذاتها التي يغرقُ فيها الماء في الماء.»
ومن بعض ما دوّنتهُ الشاعرة سارا حبيب أقتطف: « أهداني مازن لوحةً في عيد ميلادي السنة الماضية، وهي على حدّ قوله «لوحة عن اللحظات الأخيرة، لوحة عن الموت، عن موت جدي وموت والدته بالأخص»، وهما حزنان كثيراً ما كان يربط بينهما..»، وتُضيف: هل تحمل اللوحة نبوءة ما؟! هل كان الاحتضار والتعب والاستسلام البادي فيها نبوءة لما حدث اليوم؟!! لكن السنوات الأخيرة غيّرت مازن، الآن أدرك، وضيق هذه المدينة بفنه أتعبه.. خفتت طاقته، لكنها لم تغب، واليوم وأنا أراجع أحاديثنا وجدت الكثير من تكرار قوله «مُتعب قليلاً.. سأصبحُ أفضل ونلتقي ونثرثر».. متى يا مازن متى؟! حلمتُ اليوم بموت غيرك.. وكان الحلم إشارة.. خسارة خسارة.. ابعث لنا رسائل مائية يا مازن..
وهنا لابأس، وقبل أن يجفّ طينه، أن أقرأ ما يتيسر في تجربة الراحل مازن غانم اللونية.. تجربة أمسى له من خلالها أسلوبٌ خاص، وذلك بلعبته الفنية التي تمسك خيوط الاتجاهات الفنية من أطرافها، ومن ثم يدخلها مختبره التشكيلي لإنتاج مثل هذه الفرادة الفنية التي تقوم على تمازج مختلف الاتجاهات الفنية من دون أن تتورط التجربة بأحدها ليكون صرفاً وخالصاً فيها، ففي لوحة الفنان مازن غانم سيتلمسُ المتلقي الكثير من مساحات التجريد، من دون أن تكون هذه اللوحة تجريديةً، كما سيجد الكثير من التشخيص لكنه من النوع المحوّر حيث يبتعد مسافات عن الواقعية، بل وأحياناً يُضفي الكثير من الملامح الكاريكاتيرية من دون أن تكون لوحة عنده من نوع الكاريكاتير..
تأخذ لوحة مازن غانم ملامحها من كل تلك التنويعات، هذا التنويع الفني الجمالي، كان اللون المائي غوايته بالدرجة الأولى، وإن كانت للفنان صلاته الحميمة الأخرى مع بقية الألوان، وعن شغفه بالألوان المائية في عمارته التشكيلية، يذكر:«بالنسبة للون المائي؛ فهو من الفنون الروحية التي لا تتكلم ولا تُفسر، وهو جميل وصوفي وشفاف، وله علاقة بالروحانيات، لقد أحببت العمل بالألوان المائية لصعوبتها وسلاستها في الوقت نفسه، ولأنّ فيها الكثير من مساحات التحدي, وشخصياً أرغب في البحث عن مثل هذا التحدي.. التحدي الفني مهما كان نوعه، لإنتاج ما يطلق عليه السهل الممتنع.»
بينما تكاد شواغل اللوحة تذهب في مستويين، وهما الطبيعة، والجسد، وأحياناً، يمزج أو يُماهي بين الموضوعين، على عادته في الاشتغال على التنوّع من دون أن يسمح لأمر جمالي واحد أن يأسره، فهنا يمكن للمتلقي أن يتخيل الطبيعة المجسدة، أو قل المؤنسنة، كما يُمكن أن يتحسس الإنسان الشجرة، أو الإنسان الذي يُقارب مفردات الطبيعة..
منذ زمن بعيد يشتغل مازن غانم على الجسد.. مدة لا يُستهان بها قاربت العشرين عاماً، ويبدو في شغله هنا ثمة جرأة، وأحياناً مغامرة، ليس بالمعنى الإيروتيكي، وإنما في شواغله الجسدية لمطلق إنسان أحياناً وللجسد سواء كان للمرأة أو للرجل، وإذا كان موضوع الجسد الأنثوي أمراً جمالياً مفروغاً من حمولاته الفنية سواء على الصعيد الجمالي أو الفكري، غير أن اختيار جسد الرجل ليكون حمّالاً لمثل هذه الجماليات الفنية والفكرية يبدو مغامرةً، لمتلقٍ تعوّد طويلاً جماليات جسد المرأة لينشر عليه الفنان حمولاته الجمالية وشواغل لوحته وغاياتها.
صحيح أن الفنون القديمة.. ولاسيما الأعمال النحتية في بلاد الإغريق القديمة، أو في سورية العتيقة، اشتغل الفنان القديم على جسدي الرجل والمرأة وصولاً لعصر النهضة، إذ بدأ الفنان التشكيلي يقتصر في التجسيد على جسد المرأة لما فيه الكثير من التكوينات الجمالية، والتي يمكن الاشتغال عليها فيما يعرف في النقد الحديث بانزياح الدلالة، وذلك بما يُمكن عرض عشرات الرموز التي توسع مدى الطاقة المخزنة في داخلها، والمفردات ولاسيما في انزياحاتها عن سياقاتها المُتعارف عليها، وتشكيلها في سياقاتٍ جديدة مع استثمار مهماتها القديمة وإضافة مهام جديدة أخرى لتوسيع الرؤية مهما ضاقت العبارة..
اكتفي هنا لأقول لمازن غانم أصعب التحيّات: «وداعاً مازن غانم»..