كيف أكَّد دوستويفسكي ذاته كأعظم ممثل للجنس البشري؟

بديع منير صنيج

دوستويفسكي (1821- 1881) بطل أدبي لا يقل عمّن صوَّرَهم في رواياته أهميةً، ولاسيما أن تجزئة نفسه على نفوسهم، يكشف بقوة مدى عظمة وصعوبة طريق صعود النفس الإنسانية إلى ذاتها، إذ تتشابك حياة هذا العبقري مع إبداعه مع التاريخ الروسي والعالمي، لتكون شخصيته هي نقطة الانطلاق نحو فهم معاناة البشرية جمعاء.
وانطلاقاً من أن مؤلفات المبدع مفتاح لشخصيته، كما أن شخصيته تعد مفتاحاً لمؤلفاته، نلحظ اهتمام النقاد بأبطال دوستويفسكي، في محاولة منه للكشف عن السبب الكامن وراء قباحة صورتهم، رغم شبههم بمُبدعهم نفسه، ومنهم بوريس بورسوف في كتابه “شخصية دوستويفسكي”، وعن ذلك يقول: «إن أولئك الأبطال لشدة إيمانهم، ولشدة عدم إيمانهم، إلى حدّ التطرف، يرتكبون أفعالاً وجرائم غريبة، تتعارض كلياً مع نياتهم السامية، مشوهين بذلك الطبيعة الإنسانية. ومنطقهم.. يقول: مادام الإنسان غير قادر على فعل الأفضل، فليفعل الأسوأ، إذ ينعدم عندهم الخوف لِلْمَسِّ بكرامة أي إنسان”.
يتابع بوريس أنّه «كلما انغمس إنسان دوستويفسكي أكثر في قاع الأوحال والضلالات الروحية والرذائل المختلفة، ازدادت عنده الحاجة إلى الخلاص منه والاستضاءة بنور الإنسانية الحقيقية، ولو كان ذلك بعدما سمح لنفسه بتحقيق الإمكانات غير المسموح بها، مُعرِّضاً بذلك الطبيعة البشرية لاختبارات لا يرضى بها العقل والضمير، ومع ذلك فإنه يُفضِّل أن يعاقب نفسه بنفسه على آثامه وجرائمه. وكلما كان الحكم أشد كان أفضل بالنسبة إليه”.
ولعلّ ذلك يعود إلى البنية النفسية الغريبة لصاحب «الإخوة كارامازوف»، التي كانت تحتوي بعض القابلية لمغريات عصره، إلى جانب الإدانة الأكثر قطعية لجميع عيوب زمنه ونقائصه، والتعاطف، مع أفكار عصره التقدمية إلى جانب الشك الدائم بها، وبهذه السمات، يتمتع أبطاله الرئيسيون، الذين تتجدد فيهم ماهية فكره وحماسته، بصورة متكررة، لكنها ليست متطابقة معها تماماً، إذ إن جميع رواياته تشكل تبريراً ذاتياً، حسب الناقد ستراخوف، وتثبت أنه يمكن أن تسكن في الإنسان، إلى جانب النبل والشهامة، مختلف أشكال الرذيلة.
لكن دوستويفسكي كان يرد على مثل تلك الاتهامات بأنه «شعر بالسعادة في العثور على الشهامة والكرامة حتى في روح قاطع الطريق». فتركيزه لا ينصب على تمجيد البشر، مثل بوشكين، وإنما على العاهات الروحية التي أشبع بها الإنسان التاريخ انطلاقاً من ذاته أولاً.
شخصية دوستويفسكي ذات الطبيعة الخاصة تجسدت في ذاته وفي عمله، وفيها تجدد مُستمر جعله يقول وهو على مشارف الخمسين من عمره «حتى الآن لا أستطيع أن أتبين: هل أنا أسير نحو خاتمة حياتي أو أنني أبدأها الآن». هذه الطبيعة كانت تخيفه وترعبه. كما كان يخاف عقله وجدليته القادرة على استخلاص أحكام مُتناقضة من فرضية واحدة بذاتها. وتأكيداً منه على وحدة وعدم تجزؤ طريقه الروحي، كان كأنه يُلحّ على الوحدة العضوية لـ«الأنا» الخاصة به، ساعياً بظمأ إلى الحرية، لكنه في سعيه إليها لا يبلغ سوى فقدان الرقابة على نفسه. إذاً، ينتج أن الحرية التي تطلع إليها ظامئاً، تستعبده أكثر، فيبقى من دون مخرج.
“الدوستويفسكية» إذاً باعتبارها استكانة وتمرداً في الوقت نفسه، لم تكن تركيبة سهلة، بل وصل إليها مُبدِع «الأبله» بكثير من المعاناة، سبّبها وضعه الصحي كمريض صَرَع، ومواقفه الثورية في حلقة بتراشيفسكي التي أودته إلى المنفى السيبيري والأعمال الشاقة لعشر سنوات. وأيضاً وفاة محبيه حوله من أمثال أخيه وزوجته وابنته الأولى في شهرها الثاني، وعلى رأس ذلك عدم رغبته في التخلي عن رسالته التي خُلِق من أجلها، مهما قست عليه الظروف مادياً ومعنوياً، إذ يقول: «إني على قناعة راسخة أنه ما من أديب يكتب في مثل ظروفي، ولكن لو عرفت كم هو قاسٍ إفساد الفكرة السامية التي ولدت فيك، وألهبتك حماسة، لتابعت الطريق”.
وفق هذا السياق، كان يخشى دوستويفسكي أن يُمنع من الكتابة ويعدّ ذلك هلاكاً له، بينما كان يعدّ فترة نفيه مع الأعمال الشاقة مدرسة مديدة تعلّم فيها أن لا مكان للخمول الإنساني، ومن ميله إلى الخمول، كان يولّد الطاقة الأكبر للعمل، ومن حاجته إلى المال ولكونه بات أكثر تبعية لسلطته بسبب الديون المتراكمة والوعود الكثيرة لدور النشر، طالب نفسه بالإلهام بإلحاح أكبر، لتحقيق ارتقاء موهبته إلى أعلى قممها. وعندها أنهى حساباته مع المال، وتحول إلى قاضي العصر الرهيب الذي يدين المساومة والتجارة والاستثمار، لتصبح مزيته الجوهرية «خوفه الدائم من المال واهتمامه الدائم به، مع احتقاره الأبدي له”.

المسألة الواقعية التي انشغل بها صاحب «الإنسان الصرصار» مع أبطاله، هي مسألة الحق في الوجود ذاته، ومسألة إذا ما كان الإنسان سيبرر هذا الحق المعطى له وسيزكيه. وكلما أوقعه الأدب في المصيدة، يخرج منها بمساعدة الأدب نفسه، مكتسباً في كل مرة تجربة جديدة، كمفكر وكروائي. إذ لم يكن الأدب بالنسبة إلى دوستويفسكي نوع النشاط والعمل الوحيد الذي يمارسه، بل كان أيضاً الطريقة الوحيدة لتأكيد ذاته، كممثل للجنس البشري.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار
في ذكرى تأسيس وزارة الثقافة الـ 66.. انطلاق أيام الثقافة السورية "الثقافة رسالة حياة" على سيرة إعفاء مدير عام الكابلات... حكايا فساد مريرة في قطاع «خصوصي» لا عام ولا خاص تعزيز ثقافة الشكوى وإلغاء عقوبة السجن ورفع الغرامات المالية.. أبرز مداخلات الجلسة الثانية من جلسات الحوار حول تعديل قانون حماية المستهلك في حماة شكلت لجنة لاقتراح إطار تمويلي مناسب... ورشة تمويل المشروعات متناهية الصغر ‏والصغيرة تصدر توصياتها السفير آلا: سورية تؤكد دعمها للعراق الشقيق ورفضها مزاعم كيان الاحتلال الإسرائيلي لشنّ عدوان عليه سورية تؤكد أن النهج العدائي للولايات المتحدة الأمريكية سيأخذ العالم إلى خطر اندلاع حرب نووية يدفع ثمنها الجميع مناقشة تعديل قانون الشركات في الجلسة الحوارية الثانية في حمص إغلاق الموانئ التجارية والصيد بوجه ‏الملاحة البحرية.. بسبب سوء الأحوال الجوية صباغ يلتقي بيدرسون والمباحثات تتناول الأوضاع في المنطقة والتسهيلات المقدمة للوافدين من لبنان توصيات بتبسيط إجراءات تأسيس الشركات وتفعيل نافذة الاستثمار في الحوار التمويني بدرعا