جاميكا كينكيد.. وحكاية «لوسي» الباحثة عن الحب في سبيل الانتماء

علي الرّاعي
وأنت تقرأ رواية «لوسي» للكاتبة الأمريكية جاميكا كينكيد- ترجمة تانيا حريب، الصادرة مؤخراً عن الهيئة العامة السورية للكتاب-، لابدّ سيلفت انتباهك أكثر من مُعادل لنوعٍ إبداعي، حاولت الكاتبة أن تفتح عليه أبوابها السردية مواربةً، على سبيل المثال فن (المونودراما) المسرحي، إضافةً إلى أدب السيرة الذاتية..
فمن الفتحة المواربة للباب الأول؛ وأقصد المونودراما، ظهر صوت الراوية، أو الساردة لأحداث الرواية، وحكايتها بشكلٍ جلي؛ فقد كان الصوت الأكثر حضوراً، ومن ثمّ لم تسمح لأصوات الشخصيات الأخرى في الرواية بالحضور، إلّا بما يؤكد “جوانيات” الساردة ويُدعمّها، وهي التقنية السردية التي تّذكرنا بما درجت عليه حكايات وسرديات الشخصية الواحدة في عروض (المونودراما)، تلك الشخصية الأقرب إلى (المتوحدة) والمنعزلة، التي تجد صعوبة في التكيف مع مُحيطها، وبمن حولها، ومع ذلك هي ليست مريضة، وإنما لظروفٍ ما، جعلتها بهذه الحالة من العزلة والارتباك، ومن ثم هي تُجسد كل الشخصيات التي كانت السبب في عزلتها وعدم انتمائها، بمعنى؛ هي تتقمصهم أكثر مما تُعطي لهم المجال ليتحدثوا هم بأنفسهم.. وحقيقة تكمن محنة بطلة رواية (لوسي) لجاميكا، في هذا العجز، وربما هي (ميزة) في عدم الانتماء، ليس للمكان وحسب، بل حتى للأشخاص، وإنما هي عالمٌ قائمٌ بذاته وبكل ارتباكاته وتناقضاته..
ولأنّ الأمر كذلك؛ فقد ذهبت الرواية، وربما هو (مكرٌ روائي إبداعي) صوب الإيحاء، بأن الرواية هي سيرة ذاتية للكاتبة نفسها، حتى كادت تضيع الحدود بين الساردة الرواية (لوسي) التي تروي، وبين الروائية جاميكا نفسها، ولاسيما أنها منحتها الكثير من شخصيتها، ليس أهمها تاريخ ميلادها نفسه الذي تشترك فيه الروائية والراوية، ولاسيما إذا ما علمنا أن جامايكا كينكيد مواليد (1949)، فيما تذكر لوسي في سردها للأحداث: “أعطتني ماريّا مكتباً صغيراً فيه أدراج عدّة، وضعته قرب سريري (…) استرجعت منه أوراقي الرسمية: جواز سفري، وبطاقة هجرتي.. بينت هذه الوثائق كلَّ شيءٍ عني، ومع ذلك لن تُبيّن شيئاً، لقد بينت مكان ولادتي، وبينت أنني ولدتُ في الخامس والعشرين من أيار 1949”..
وبالعودة للملمح الأول في الرواية؛ أي محنة عدم الانتماء فـ(لوسي) تُهاجر من (جزر الهند الغربية) إلى الولايات المتحدة، وذلك للأسباب نفسها التي ستجدها في المكان الجديد بأشخاصه وربما أحداثه.. ومن ثم لتكون محنتها في هذا (البرزخ)، المكان اللاتقدم فيه إلى الأمام، ولا للعودة إلى الوراء، وحتى في عدم الانتماء للبرزخ نفسه، الذي بقي حيزاً في داخلها، ليترك مسافة بين روحها والانتماء لما يُحيطُ بها.. ومن ثمّ هي دائماً ترى الأماكن عادية وربما قذرة، كثيراً ما تراها قد أرهقها دخول الناس إليها ومغادرتهم..
الأمرُ أشبه بـ(نكد) مشاعر كائن يتوقُ لمغادرة مكانٍ لا يطيقُ وجوده فيه، مخنوقٌ طوال الوقت، ويشتهي مغادرته لأبعد مكانٍ عنه في هذا الكون، وعندما يبتعد عنه ميلاً أو أكثر، يُصيبه داءُ الحنين للمكان الأول المُفعم بالاختلاف، أليس الحب والكراهية موجودين جنباً إلى جنب؟!.. تنظر بغبطة إلى كل من حولها الذين يعيشون الحياة بتفاصيل بسيطة، كـ(ماريّا) التي تعمل عندها مربيةً لأطفالها، والتي كانت تراها –رغم كل محنها وخيباتها- أنها على قيد الحياة من خلال بعض الأزهار التي تنحني مع النسيم، وتستغرب من إنسان يكون على هذه الشاكلة من البساطة رغم ما لديها من إمكانات لأن تعيش الحياة طولاً وعرضاً وارتفاعاً.. تقول في منولوجاتها الطويلة: “لم يكن ذنبي، ولم يكن ذنبها، لكن لا شيء يُمكن أن يُغير حقيقة؛ إنه حيثما رأت ماريا أزهاراً جميلة، كنتُ أرى حزناً ومرارة، وقد يُحيلنا الشيء نفسه لذرف الدموع..”، ببساطة كانت ماريّا ترى العالم دائرياً، فيما لوسي تراهُ مُسطحاً، ومن ثمّ ترى إن هي ذهبت إلى الحافة ستسقط.. تماماً كأن الأرض التي تقفُ عليها، تُسحبُ من تحتها ببطء، وتحت قدميها ثمة حفرة بانتظارها لتسقط فيها إلى الأبد.. من هنا هي دائماً لا تفتقد الأمكنة بمن فيها، وبما فيها، عندما تقول وداعاً لكلِّ شيء.. تقول: “كنتُ أعتقد أنّ مجرّد تغيير المكان من شأنه أن يُخفي من حياتي الأشياء التي احتقرتها إلى الأبد، لكن هذا لم يحدث، ومع مرور كلّ يوم، كان بإمكاني رؤية التشابه في كلِّ شيء، كان بإمكاني رؤية الحاضر يأخذ شكلاً ما، شكل الماضي”..

ملمحٌ ثالث يُمكن الإشارةُ إليه في سرد جاميكا في هذه الرواية، وهو الوصف الذي يُقارب الشعر، وذلك في تصوير هذه الأماكن التي (تتورط) بها على حدّ مشاعرها، فيما يُشبه الانفصام والتناقض في هذه المشاعر التي يتماهى فيها الحب والكره بالنسبة نفسها.. وحقيقة اللغة في هذه الرواية لغة مشهدية ساحرة، كأنها تسرد بعين سينمائي (..كانت الشمس؛ تصرُّ شاحبة، وكانت تنوسُ برتقاليةً في محاولة أخيرة لتتألق..)، وتقول في وصفٍ آخر: “كان جميع الأشخاص الذين يشبهون أقاربي رجالاً كباراً في السن، وذوي وقار، وكأنهم قد خرجوا للتو من كنيسة بعد صلاة الأحد”..
ربما محنة لوسي فيما وصفته بأحد المشاهد: (كان شهر كانون الثاني مرةً أخرى، وكان العالمُ هزيلاً وشاحباً مرة أخرى، كيف أصنعُ بدايةً جديدة)، فيما نصيحة أمها كانت أن تتأكد دائماً من أنّ السقف الذي يعتلي رأسها، هو ملكها.. ثم لنصل للخاتمة الصادمة، والتي فيها تُلخص الروائية إشكالية ومحنة بطلتها وعلى لسانها: “أتمنى لو كان بإمكاني أن أحبّ شخصاً ما، لدرجة أن يقتلني هذا الحب”..

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار
في ذكرى تأسيس وزارة الثقافة الـ 66.. انطلاق أيام الثقافة السورية "الثقافة رسالة حياة" على سيرة إعفاء مدير عام الكابلات... حكايا فساد مريرة في قطاع «خصوصي» لا عام ولا خاص تعزيز ثقافة الشكوى وإلغاء عقوبة السجن ورفع الغرامات المالية.. أبرز مداخلات الجلسة الثانية من جلسات الحوار حول تعديل قانون حماية المستهلك في حماة شكلت لجنة لاقتراح إطار تمويلي مناسب... ورشة تمويل المشروعات متناهية الصغر ‏والصغيرة تصدر توصياتها السفير آلا: سورية تؤكد دعمها للعراق الشقيق ورفضها مزاعم كيان الاحتلال الإسرائيلي لشنّ عدوان عليه سورية تؤكد أن النهج العدائي للولايات المتحدة الأمريكية سيأخذ العالم إلى خطر اندلاع حرب نووية يدفع ثمنها الجميع مناقشة تعديل قانون الشركات في الجلسة الحوارية الثانية في حمص إغلاق الموانئ التجارية والصيد بوجه ‏الملاحة البحرية.. بسبب سوء الأحوال الجوية صباغ يلتقي بيدرسون والمباحثات تتناول الأوضاع في المنطقة والتسهيلات المقدمة للوافدين من لبنان توصيات بتبسيط إجراءات تأسيس الشركات وتفعيل نافذة الاستثمار في الحوار التمويني بدرعا