أدب الهم الشخصي.. عندما يعني الآخرين أيضاً!
تشرين- علي الرّاعي:
يُحكى عن شاعرٍ؛ إنه سُئل ذات مرة: “ما هو الشيء الذي جعل منكَ شاعراً؟”، ويُحكى أنه أجاب: “مات أخي الصغير، وبعد أيام اكتشفتْ أمي آثارَ دعسات قدميه أمامَ المنزل؛ فكان أن سيجتّها بالأحجار كي لا تمحوها الريح..” ويُضيف: من تلك اللحظة، عرفت الحب والشعر.. وفي نظرةِ تأملٍ بسيطة لما يُقدم من نتاجات إبداعية؛ أو حتى في الاعترافات والتصريحات التي يطلقها الأدباء ولاسيما الشعراء منهم؛ فإن المُتابع لا يحتاج وقتاً طويلاً، ليكتشف أن ما يُقدم من تلك النتاجات، أو أن بواعث الإبداع وشواغله تنضوي جميعها تحت عنوان “الهمّ الشخصي” بمعنى؛ غياب “القضايا الكبرى” تلك التي كانت ذات حين من عقود القرن العشرين شواغل الأدب وباعثه.
ربع قرن
بل يبدو ذلك الإبداع على مدى ما يُقارب ربع قرن من اليوم، وكأنه يُماثل جرعةَ دواءٍ لمريضٍ حتى يُعيد توازنَه، ويُكمل مشوارَ حياتَهِ، وفي رصدٍ لما يطلقه هؤلاء الأدباء والشعراء من تصريحات عن أهمية الكتابة لذواتهم؛ ستنتابُ المرء الخشية، ويسأل ماذا لو فُقدَ هذا “الدواء”؟ بمعنى؛ كيف سيتصرفُ المبدعُ مع جفافِ عشبِ الخيالِ ويباسِهِ، ومثلُ هذا الأمرِ طالما حصلَ، وطالما اشتكى الكثير من الشعراء من “خيانة” القوافي منذ قديم القول الشعري!
في الإجابة عن مثل تساؤل كهذا: فإنَّ الكثيرَ من السّيرِ الذاتية لعددٍ من الأدباء، تؤكد أنهم في لحظةٍ ما، وضعوا حدّاً لحيواتهم حال وصول إبداعهم لخواتيمه، والقائمة لو أردنا أن نُعدد تطول جداً. وهنا نُذكر بالانطولوجيا التي أنجزتها الشاعرة جمانة حداد سنة 2007 حول الشعراء الذين أقدموا على سفكِ دمائهم، بعد أن جفَّ حبرُ أقلامِهم، وربما لم يسبقها في هذا المجال سوى كتاب “الشعراء الملعونون” الذي أصدره بول فيرلين عام 1884م، فقد أحصت حداد “مئة وخمسين” شاعراً انتحروا في القرن العشرين، فيما تؤكد الروائية مايا الحاج: “لو تأملنا في سِيَر الشعراء والأدباء والفنانين، لوجدنا أنّ الاعتلال النفسي هو سمة مشتركة بين عدد لا يُستهانُ به منهم.. ناهيك بمبدعين قضوا جزءاً من حياتهم داخل مصحّاتٍ نفسية، حتى ليغدو ارتباط الجنون بالإبداع أكثر من مجرد مصادفة”.
الشعرة الفاصلة
يذكر (أ.م.سيوران) في كتابه “القياسات المنطقية للمرارة”: قال لي مريض: “ما فائدة آلامي؟ فأنا لستُ بشاعرٍ لأستخدمها، أو استقي منها الغرور”.
لكن المفاجأة ورغم كل هذا الإغراق في الذاتية للإبداع بشكلٍ عام، وللأدب والشعر على وجه التحديد، نجدُ قبول مثل هذه الصياغات الذاتية عند المتلقي أكثر من نتاج أدب القضايا الكبرى، أو ما عُرف بأدب الإيديولوجيا، بل المُدهش اليوم كيف لمذكرات أو اعترافات لأشخاص عاديين أن تنالَ كل هذه المساحة من الرواج، حتى كان أدب السيرة الذاتية، الأكثر قبولاً على مدى الربع الأخير من القرن العشرين وحتى اليوم، والذي انتقل إلى الدراما بأنواعها التلفزيونية والسينما والمسرح.
يعني الآخرين أيضاً
وهنا، ربما نجد في إجابة الكاتبة ماسة عوّاد ما يُفسرُ كيف يكون “الهم الشخصي” يعني الآخرين، تقول عوّاد: الكتابة بالنسبة لي هي المُرادف الوحيد للحياة، أتعاملُ معها بتقديسٍ يجعل لها الأولية على كل شيء، وهنا لا أتعبُ نفسي في البحث عن مناطق جديدة في الكتابة، ربما ينبع هذا من إيماني بالصدق في التعبير عن الذات، ويبدو أن هذا ما يحتاجه متلقي اليوم؛ كاتبٌ صديق يستطيعُ صياغة ما يُفكرُ به على الصعيد الشخصي، تنقله من حالته العادية إلى حالةٍ شعريةٍ خاصة، صياغةٌ كيميائيةٌ تزيحُ الكلمات من سياقاتها العادية إلى مسارب سحرية لدرجة تُشعرُ المُتلقي أنه هو المقصود بهذا النتاج، وكأنه يعنيه دون غيره، وهو الملمح الأهم اليوم في نتاج الألفية الثالثة، فليس المُهم اليوم أن يعرفني “الخيلُ والليلُ”، ولا أن يكون المُبدع المُعاصر مالئ الدنيا وشاغل الناس.. يكفيه أن يملأَ نفسَهُ وحسب، وعلى حدّ قول شاعرنا السوري المُغترب في اليابان –عرّاب الأدب الياباني–: يكفي الشاعرُ أن تعرفه جارتُهُ على الشرفةِ المُقابلة!
ونختم مع نزار قباني في هذا التعريف:
ما الشعرُ ما وجعُ الكتابة ما الرؤى؟
أولى ضحايانا هم الكتّابُ
يعطوننا الفرحَ الجميلَ وحظُّهم
حظُّ البغايا ما لهنَّ ثوابُ.