“سيرة مدينة” ترويها شخصيات شعبية وإبداعية قيد الانتظار لمؤلفه “د. حسان فلاح أوغلي”!
نضال بشارة
ليس من الضروري أن تكون مبدعاً في مجال ما، أو مثقفاً مشهوداً لك حتى تقدّم درساً في القيم المعنوية، فواقع الحياة يعطيك نماذج إنسانية قد لا تلتفت إليها رغم أنها تختزن في سلوكها وحياتها ما يعجز عنه أهل الإبداع الذين غالباً، ما تؤطر سلوكياتهم، غيرتهم وأنانيتهم. فأن يشهد ممثل بتألق ممثل آخر، أو قاص بزميل له، أو شاعرة بشاعرة أخرى، أو ملّحن بأحد أبناء جيله، ممكن وقد يحدث ذلك، لكن في الأغلب على حرج، فكيف إن كان من يجب أن تشهد له أنت في الأصل لا تحبّذ ما يبدع فيه، أو أنك ليس من معشر المبدعين وتنحاز لأحد ما!
ملاذ وبهاء
فما رواه لنا الصديق “د.حسان فلاح أوغلي”، الذي يكتنز في ذاكرته قصصاً عن نماذج من أبناء مدينتنا حمص، الذين خبرهم وعايشهم مطولاً، خاصة من أبناء حارته الشعبية التي لن نذكر اسمها لأنه ليس من حقنا أن نكشف ما سمحنا لذاتنا من كشفه، والذين يتصرفون على سجيتهم من دون أي تزويق، ينم عن غنى تلك الشخصيات في تقديم نماذج، بعضها يصلح ليس مثالاً على ما أشرنا إليه، بل يصلح أيضاً نماذج لشخصيات درامية لم نشهدها في أي مسلسل تلفزيوني.
والصديق د.حسان رغم عمله في الإمارات العربية المتحدة، منذ سنوات تزيد على ربع قرن، إلاّ أن ذاكرته عن أبناء مدينته من الحارات الشعبية وأدباء المدينة وأساتذة الجامعة الذين درسوه في كلية الآداب، سواء الذين رحلوا أم الذين مازالوا على قيد الحياة، لا تزال ذاكرة نضرةً، وكأنه يستعيدها بين حين وآخر في غربته كملاذ يرطّب جفافها. فكل القصص التي يرويها عن أبناء مدينته هي قصص مكتنزة بالسحر والجمال والبهاء، وكأنه لم يقابل في حياته سوى الأصدقاء الذين يشبهونه بالمحبة والعطاء الإنساني، ففي كل مرة يسرد لنا قصة، أتساءل هل يملك صديقي حسان الذي تعرفت إليه لأول مرة حينما كان معيداً، سبق أبناء دفعته بالتخرج ثم درّس بعضهم، جهاز “رادار” في دماغه يكشف المحبة لدى الآخرين التي تتماثل أحياناً مع ما يختزنه منها حتى يصادقهم؟
غرام وتعزية
ثم أمضي من تساؤلي إلى استعادة ما رواه لنا في آخر جلسة، آملاً منها أن أحرضه على إنجاز جمع قصص تلك الشخصيات بكتاب أذكر أنه ينوي تسميته “سيرة مدينة”، وأجدني مستعيداً لكم ما رواه لنا مؤخراً في جلستنا شبه الأسبوعية في منزل المسرحي المبدع فرحان بلبل، بحضور القاص والروائي د.جرجس حوراني، والباحث د. محمد زكريا، والقصة عن حلاق حارتهم “أبو شاكر” المغرم بالفنانين الشقيقين فريد الأطرش وأسمهان، فمضى د. حسان يروي لنا أن الحلاق كان يناديه دائماً كلما حصل على تسجيل لم يكن بحوزته من حفلات فريد أو أسمهان، يدعوه للاستماع إليه، سارداً لنا تفاصيل انشغال الحلاق عن الزبون الذي بين يديه والذي يعرف مسبقاً إنه قد يطول انتظاره ساعتين أو أكثر، ومن دون أن يتذمر، ينشغل عنه لأجل أن يُسمع صديقنا حسان تسجيلاً جديداً مع كأسٍ من الشاي، يُعدّه في حضرته، منوّهاً له أن الشاي لا يمكن أن يعدّ من دون انتظار. وهذا الحلاق المغرم بفريد وشقيقته أسمهان، والمتحيّز لهما، لم يمنعه ذلك حين توفي عام 1991 الموسيقار محمد عبد الوهاب الذي لا يحب أغانيه، أن يقيم له تعزية أمام صالونه. ما يعني وفق إشارة صديقنا حسان أن هذا الحلاق البسيط ثقافة وعلماً، استطاع رغم عدم حبه الاستماع إلى إبداعات عبد الوهاب، أن يحترمه كمبدع ويقدّره كإنسان، ليقول لنا أنه بإمكاننا أن نختلف مع احتفاظنا بما بيننا من احترام وتقدير، حتى لو لم نكن نستسيغ إبداع الآخر، سواء كنا مبدعين أم متلقين.
جعبة كتابات
ونشير أخيراً ونحن في انتظار كتاب “سيرة مدينة” إلى أن د.حسان في جعبته تحقيق “ديوان طفيل الغنوي، شرح الأصمعي”. وطفيل الغنوي واحد من الشعراء الفرسان الذين اقترن اسمهم بالخيل، فسمي طفيل الخيل لكثرة عنايته واهتمامه بها، ويعد شعره معجماً للخيل وصفاتها، ولهذا اتكأ اللغويون عليه في المعاجم والكتب.
كما صدر له العام الماضي كتاب (في رحيل رجل العلم والأدب: د. عبد الإله نبهان) إعداد وتحرير. ويذكر أن له مقالات كثيرة نشرها في أهم المجلات العربية التي اعتنت بالتراث العربي. ولنا في انتظار كتابه “سيرة مدينة” على رجاء رؤيته النور قريباً الذي نزعم أنه سيأتي بعبق الناس الطيبين والمبدعين من أبناء مدينة حمص بما يختزنونه من بهارات إنسانية، يجب تسليط الضوء عليها في ظل النماذج السلبية التي راجت أكثر، في زمن الحرب.