الشرق الأوسط والمنعطف الدّولي الكبير

ادريس هاني

للسياسة فصول، وها نحن دخلنا خريف السياسة الدّولية، المنعطف الدّولي بلغ الذروة، هو المخاض، انتقلت الحرب العسكرية إلى أوروبا، أمّا الحرب الاقتصادية فهي تستهدف عواصم الغرب التي تشكو من تضخم حاد، أمّا الشرق الأوسط فهو يعيش انجراف التربة، وليس بعيداً ستنهار الكثير من السياسات، ولن يصمد في المنعطف إلّا من مارس السياسة الدولية بذكاء.

اتبعت سورية انتصاراتها بوتيرة منطقية، كانت سورية وما زالت متصالحة مع مبادئها وأيضاً واقعية في تدبير مقاومة العدوان. لقد تحدث الكثيرون عن الموقف المبدئي لسورية، لكن قلما تمّ الاهتمام بالواقعية السياسية لسورية، منذ قائد الحركة التصحيحية الرئيس حافظ الأسد، لم نسمع طوال ما يربو على عُشرية كاملة، أي خطاب ركيك وغير مقنع أو ينتمي للتقاليد الفاشستية؛ لقد كانت خطابات الرئيس بشار الأسد دروساً تستحضر روح السياسة، ولا تتنكّر للمفاهيم الكبرى، التي تخلو منها للأسف الكثير من الخطابات التي تعاني من الجمود. لقد تصرفت سورية منذ أكثر من عشر سنوات بمنطق الدولة القوية، ذات المؤسسات القوية، وبلغة السياسة ومفاهيمها، كما تمتعت دبلوماسيتها بالحنكة والحكمة، واللّياقة، متجنّبة – وهي في ذروة الحرب- خطاب الحماقة والأحقاد والمُغالطة والهمجية. كانت سورية في قلب النّار، ولذا استهدفت على طول الخطّ .. سورية مثال فريد في التحدّي، واجهت أشرس مؤامرة دولية في وقت تخلّى عنها كلّ العرب، ماعدا بعض فصائل حركات التحرر، وأعماقها الإستراتيجية مستندين على المشترك الجيوستراتيجي وليس على الميثاق العربي الذي بات حكاية قديمة بفعل انهيار العمل العربي المشترك، وبعد أن غادرت سورية جامعة الدول العربية، وأعني بالعمقين الاستراتيجيين كلاً من روسيا وإيران. في محنة سورية الطويلة، لم نشهد مبادرة لدى الدول العربية لحماية سورية، كما لم نشهد أي مساعدات عسكرية أو اقتصادية، سورية تدرك ذلك تماماً، وهي تدرك أنّ ظهرها حمته كل من موسكو وطهران، بينما العرب باتوا إمّا شيطاناً ناطقاً أو شيطاناً أخرس. علينا أن نحذر من الكذب على التاريخ الحيّ، والآني، سورية حاربت بإمكاناتها وبمساعدة حلفائها.

لم يعد اليوم من أولويات سورية العودة إلى جامعة الدول العربية، على الرغم من أنّ هذا حقّها الذي يقتضي اعتذاراً شديداً وطلباً لعودة مؤسس لجامعة ما زالت حتى اليوم تعاني الهشاشة. سورية اليوم منشغلة بتحقيق مخرج عادل لقضيتها، أما اجتماعات العرب، فهي فاقدة الجدوى.

ومع ذلك، ما زال هناك برنامج معد لسورية لكيلا تدخل منعطف السلام والاستقرار وإعادة البناء، والموكل بهذا الدّور هو العدو من الجنوب والعدو من الشمال؛ باتت سورية بين كماشتين، لكنها ، كما أظهرت عُشرية الكفاح، أن سورية ستربح الرهان، وبأنّ انهماك حلفائها في شأنين كبيرين لا يعني أنّهم غير مراقبين تلك التطورات. العدوان الصهيوني على الأراضي السورية وكذا تلويحات انكشارية أردوغان بشنّ حرب جديدة في الأراضي السورية، نشاط اعتادت عليه سورية، كما اعتادوا أن يجدوا دمشق صامدة في وجه كل محاولات الضّغط. اليوم المعركة لها أبعاد باتت أوضح، من سورية إلى أوكرانيا إلى حدود تايوان.

في هذا السياق يبدو حقل كاريش اختباراً جديداً، هناك زج باليونان المتهالكة اقتصادياً لتكون حصان طروادة في حرب اقتصادية قد تتحول إلى حرب ساخنة.. تجويع شعب بكامله واختراق مجاله الحيوي للتنقيب عن النّفط، السيادة اللبنانية كانت وما زالت على كفّ عفريت، لكن مشكلة لبنان ليس لكونه دولة ضعيفة، بل لأنّه كان وما زال كياناً مستهدفاً في ما هو قبل سؤال السيادة، يعني الدولة. هناك تعويض تقوم به المقاومة الوطنية، ما يجعل معضلة لبنان هي أنّه أضعف من أن يحقق وحدة وطنية تملك إرادة سياسية موحدة، وفي الوقت نفسه هو أكبر من أن يبتلع في لعبة الأمم. هذه المفارقة هي في حدّ ذاتها مصدر قوة لبنان حتى اليوم.

المنصّات التي وضعها الاحتلال في بعض بلدان الخليج لاعتراض الصواريخ الإيرانية، هي منصات عاجزة عن تحقيق أي توازن في الردع حين تزف الآزفة. وهم يدركون ذلك، بل هم في حيرة من أمرهم، ففضلاً عن أنه توريط يهدف إلى جعل هذه الدول أكياس رمل وشريطاً إستراتيجياً في أي حرب قادمة/غامضة، فهو أيضاً تطمين للداخل الذي فقد الأمل والثقة في احتلال أرض يوجد فيها شعب، وأنه شعب حيّ. لهذا كلّه، يبدو الشرق الأوسط ، وعلى الرغم من كلّ هذه السياسات اللاحنة، يشقّ طريقه نحو منعطف جديد، ستبدأ ملامحه تتضح أكثر في مخرجات العمليات الروسية في أوكرانيا، وهي مخرجات تشكل موضوع أفق التوقع الجيوستراتيجي لمعركة تقع في العمق الأوروبي، بيد أنّ لها آثاراً في القارات الخمس، ليس فقط من حيث انعكاسها على تسويق القمح والنّفط، بل لأنّها أيضاً تبحث عن بديل لنظام عالمي قديم، لطالما شكّل عقبة ضدّ إرساء نظام أكثر عدالة في العلاقات الدولية.

اليوم يتجاوز الوضع ما تقتضيه الإرادات الإقليمية، ولاسيما في ظلّ انهيار النظام العربي الرسمي، فالعالم يتغير تحت طائلة الضرورة، ولأسباب تخصّ مصالح الدول العظمى، تلك التي تفكّر في مستقبل أفضل، وليس ما نشهده في إقليم القبائل العربية التي ما زالت أوفى لتقاليد ما قبل الدولة؛ قبائل متناحرة ، وليست متناحرة في كبير.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار