قبور عائمة في مياه ضحلة!
زيد قطريب
فكرة “القبور العائمة” لم تنقذ بحّارة “السوشيال ميديا” في حروبهم التي تندلع يومياً. فالتريند يتطلب زوارق أكثر خفةً من كتل الخرسانة التي صنع الحلفاء سفنهم منها في الحرب العالمية الثانية، وسماها الأميركيون لاحقاً بالقبور العائمة التي لم تكن قادرة على شيء سوى الغرق والاستقرار في القاع!
المغردون و”المفسبكون ” العرب، فضلوا اعتماد “القبور العائمة” نظراً لرخص تكاليفها وسهولة صبّها في القالب الجاهز لأنه لا يتطلب ابتكاراً أو كوادر برواتب عالية. ورغم استقرارهم في القاع كل مرة، إلا أن فكرة القبور العائمة بقيت تحمل موتاها في الإعلام والنقد والصفحات الشخصية. لأن الاحتراف غائب والميزانيات لا تسمح، عدا مقصات الرقابة التي تعمل مثل كتل الكونكريت ضمن ‘صبّات” مسبقة الصنع!
ورغم أن فكرة حراثة البحر تبدو مشروعة بالنسبة للمخيلات العالية، لكن المنابر العربية تريد فلاحة المياه بثور عجوز وسكّة مثلمة، وتريد أيضا أن تصنع من الحبة قبّة، من دون أن تسقي البذرة وتقدم لها السماد حتى تكبر وتمد أغصانها إلى أعلى. مثلما هي الحال في فكرة تبليط البحر بورق جدران مثلاً، أو الاكتفاء بالنيات الطيبة من أجل مقارعة سفن الشحن الضخمة وحاملات الطائرات.
انسجاماً مع ذلك، سيكون على الإعلامي كتابة خبر بألف وخمسمئة ليرة، يتضمن أجور اتصال ومواصلات وضيافة لصاحب التصريح الذي يحبذ أن يجلس في مقهى الروضة أسوة بالشخصيات الهامة التي ستهز المشهد بعبارة يلقيها على الجمهور المتعطش إلى “الأكشن”. فالقبور عائمة، والمياه ضحلة لا تستحق صناعة سفن من الفولاذ المكلف كما يقول خبراء “الإتش آر” الشاطرون في التنمية البشرية وتفريخ الإدارات المنفصلة عن الواقع!
راتبك في الشهر مئة ألف ليرة! سيقول صاحب رأس المال وهو ينشىء موقعه الإلكتروني الخاص الذي يعتقد أن جهودك لا تساوي سوى فروجين وكيلو سكر وبطيخة” زهرية” ليس فيها من الحلاوة شيء على الأغلب. فهذا يكفي لأن تشعر بالدم يصعد إلى رأسك فتنبري للرد على الامبريالية العالمية المتوحشة وهي تنهب ثروات العالم ولا تترك لك شيئاً سوى سيرفرات الإنترنت البطيء والمراقب التي تعني أنك تحت المجهر في كل تحركاتك وأحلامك وحتى مشاعرك. لن يكون أمامك سوى خيار الصعود إلى أحد القبور العائمة وانتظار اللحظة التي سيعجر فيها المركب عن المناورة ليغرق في القاع لأن الإبحار يتطلب تضحيات من العيار الثقيل.
ورغم أن أجدادنا الكرام تهكموا على الإدارات الفاشلة مبكراً عندما قالوا: “سنرى كم جلد فأر يمكن أن يصنع فروة”، إلا أن فكرة سلخ الفئران لم تتوقف عند الأحفاد الذين يريدون أن يصنعوا من جلود الفئران عباءات وجلابيات وجوارب “ليكرا” تحميهم في لحظات المواجهة مع المنابر المحترفة التي تنفذ استراتيجيتها بـ”التي شيرت” و”سراويل الجينز” والعملات الصعبة.
سيكون علينا أن نرضى بالبَيْن، لكن البَيْن سيبقى يعتقد أن الألف وخمسمئة
ليرة قادرة على صنع المعجزات بموبايل مكسور الشاشة وسماعات عاطلة، لأن الأعمال بالنيّات، وما يكفينا للنجاح هو أن ننوي ونصبر حتى تنتهي دراسات تحسين وضع الإعلاميين القابعة في الأدراج منذ العصر الجوراسي.
العالم تخلى عن فكرة القبور العائمة منذ مئة عام، ونحن نُصعد موتانا إلى كتل البيتون التي نسميها سفناً، ونقول لهم: أبحروا!