“موت موظف” للؤي شانا.. وأسئلة الزمن المسرحي
بديع منير صنيج:
الأسئلة الرئيسة التي دارت في ذهني بعد الإعلان عن عرض “موت موظف” (عن قصة لتشيخوف) نص وإخراج “لؤي شانا”، هو ما الذي سيقدم على خشبة مسرح الحمراء مادام مأخوذاً عن قصة قصيرة لا تتجاوز ثلاث صفحات؟ وكيف سيتم الاستناد إلى شخصياتها القليلة في ملء الزمان والمكان المسرحي على خشبة الحمراء؟ ثم ما الإضافات المُتاحة والتعديلات الجوهرية التي يفرضها مرور ثلاثة وعشرين عاماً على تقديم المخرج “شانا” لنفس النص على خشبة المسرح القومي في اللاذقية؟ وهل ما زالت مقولة العرض صالحة وطازجة بعد هذا الزمن، بحيث أن “عطسة الموت” قادرة حتى الآن على فكفكة وتشريح قضية الخوف التي تطرحها قصة تشيخوف؟
بدأ العرض الدمشقي بمجموعة كبيرة من نماذج البشر القادمين لحضور عرض سينمائي، منهم المُحافظ، والمتصابية، والمغترة بأنوثتها، والمُخنَّث، والباحثة عن شريك، وثقيل الظل، واللَّعوب، والمرتبكة المستغربة، وغير ذلك من الشخصيات، إلى جانب شخصية الموظف المُتردِّد في خطواته، وكأنَّه يُخفي إثماً عظيماً ارتكبه بحضوره إلى السينما، وما إن يأخذ كلٌّ منهم مكانه، حتى يتقدم مرافقان شخصيان، ويقومان بإزاحة تلك الشخصية الأخيرة التي جسدها الفنان “علي القاسم” من الصف الأول، ليحتل مكانه وعلى كرسي فخم، من يوحي بهندامه وقبعته وطريقة جلوسه، وحارسيه اللذين همَّا بإشعال سيجارته معاً، بأنه من أصحاب السلطة والمركز المرموق (أدى الشخصية “محمد سالم”)، وبعد دقائق من بدء الفيلم يعطس الموظف على رأس صاحب النُّفوذ، فيعتذر أشد الاعتذار، ليرد عليه المعطوس عليه بأن الأمر بسيط، لتتكرر العطسات على مدى زمن الشريط السينمائي الذي لا نشاهده نحن المتفرجين إلّا من خلال انفعالات الممثلين كلٌّ وفق شخصيته، سواء في مشاهد الأكشن، أو الغرام، أو الحزن، وتتوالى اعتذارات الموظف وتبريراته بأنه لم يكن يقصد أن يفعل ما فعله، لتثير العطسة الثالثة غضب المسؤول فيخرج من العرض نهائياً، أما العاطِس فينهار من خوفه، وما أن يصل إلى منزله بعد الصدمة التي تلقاها، ويخبر زوجته (تجسدها “لميس عباس”) حتى تبدأ الأخيرة برسم خطة للاعتذار، وتالياً التأكد من عدم انزعاج تلك الشخصية المرموقة من فعلة زوجها، وفعلاً بعد ليلة كابوسية يزور الموظف ذاك المسؤول في مكتبه ويقدم تأسفاته ويترجى عدم مؤاخذته، لكن النهاية تكون بأن يعطس عليه مرة جديدة وفي وجهه هذه المرة، ونتيجة الكَدر والخوف الذي أصابه يموت ببساطة.
حتى هذا المنحى من الحكاية لا يخرج العرض عن قصة تشيخوف، إلّا ببعض التفاصيل القليلة، لتبدأ الاشتغالات الجديدة على النص في مجلس عزاء الموظف، فمنهم من يعدد مناقب الفقيد، وآخر يطالب أخاه باستيفاء دينه، وثالث غير مُصدِّق ما حدث، ورابع مُترنِّح من سُكْرِه وينعى المتوفى غناءً، وآخر أتى إلى التعزية كرفع عتب، وفي الشخصيات النسائية، تبدأ مناحات ومناكدات وتدقيق على المظاهر، لتبرز تفاصيل كثيرة من النفاق الاجتماعي، ولاسيما بين أخوين يتبادلان الاتهامات بسرقة كل منهما للآخر، والشيخ الذي يدعوهما للهدوء ومسامحة بعضهما، لكنه في النهاية يخرج عن طوره ويغضب أشد الغضب ويغادر مجلس العزاء، أو بين النساء المتظاهرات بالحزن، والمتسابقات في إظهار الكَدَر والاكتراث بزوجة الفقيد.
ولعلّ المشهد الأهم في العرض هو الأخير، الذي جمع الذكور في حانة، وكانوا في حالة من السكر، وبدؤوا السخرية من فعلة الموظف، ليقف لهم بالمرصاد أحد الأخوين المتقاتلين، وهو ابن ضيعة شهم (جسده “ماجد عيسى”) قائلاً لهم إن المتوفى، استطاع على الأقل أن يعطس، أما أنتم فلا تستطيعون، وعندما حاول كلٌّ منهم العطاس يفشل، وعندما طالبوه بأن يعطس فشل هو أيضاً، وأخوه مُدَّعي الثقافة (جسده “باسل حيدر”) أيضاً، ونساء القرية يفشلن جميعهن، هنا يظهر طيف الموظف الميت كقائد أوركسترا للجَمع ويقودهم فيما يمكن تسميته “سيمفونية العُطاس” لينتهي العرض بضوء أحمر مُسَلَّط عليهم، وعلامات الخوف تنضح من وجوههم، بعدما انتقلت إليهم روح العطس الموجهة على رؤوس المسؤولين.
جو الكوميديا الذي ساد العرض خفف من وطأة النهاية التراجيدية لموت الموظف، والتنويع بين مشاهد العراضات والتعازي والخطابات، مع الاتكاء على العديد من اللهجات السورية التي أدَّاها الممثلون وفق شخصياتهم المتعددة، بتميُّز جعل من تبنِّيهم لها علامة فارقة في العرض، خاصةً في ظل اللَّعب بأداء الجسد ونبرة الصوت وفق ما يقتضيه كل مشهد وكل شخصية، ما جعلنا أمام غنى مُحبَّب، مع عدم الركون إلى نمط واحد من الشخصيات لكل ممثل، بأزياء مختلفة (مسؤول الأزياء: سامر لوباني)، وكاريكترات متعددة فرضت مكياجاً مختلفاً لكل شخصية (مكياج: خولة ونوس)، لكن لو تمَّ ضبط النص أكثر، والتخفيف من شطوطه اللا مُبَرَّر، لكانت جرعة الكوميديا ذات أثر أكبر، ولاسيما أن الملل تسرَّب إلى بعض مفاصل العمل، في ظل خطوط درامية لم تخدم فكرة العرض الأساسية، وكانت بمثابة استدعاء للضحك المجاني، من خلال اللعب بالألفاظ والإيحاءات الجسدية لا أكثر، مع مساعدة من تنويعات موسيقية اختارها “إياد اسمندر” فجاءت هي الاختلاف الأكبر عن عرض “شانا” الذي قدّمه عام 1999، مع الاحتفاظ بالديكور ذاته “تصميم: سنان إسبر”، وروح الإضاءة ذاتها “تصميم بسام حميدي”، وهو ما يعيدنا إلى الأسئلة الافتتاحية عن الجدوى المسرحية ومغازي الزمن فيها.