نغم عبّود.. النصوص الومضية ذات الأبعاد التأويلية
راوية زاهر
بين القصيدة الومضة، وهو الجنس الإبداعي الذي بدأت به مشوارها في الكتابة، ومن ثم التخويض في جنس القصة القصيرة جداً، إلى أن تعرَّف إليها المُتلقي من خلال نشاطها في إبداع الهايكو، والتي لفتت إليها الانتباه من خلاله ليس بكتابة نصوص الهايكو وحسب، وإنما من خلال التنظير، وإقامة أكثر من ملتقى في هذا النوع القادم من أقصى آسيا – اليابان – والذي جال إلى اليوم مختلف عوالم هذا الكون، حيث كل شعب من شعوب العالم جرّب أن يُنتج مُعادله من الهايكو الياباني.. نغم عبود التي أصدرت في فن الهايكو كتاباً مشتركاً مع الزميل علي الرّاعي بعنوان (كوقتٍ يُزهرُ على الشرفات) الصادر عن دار بعل في دمشق – ربما نخصهُ قريباً بقراءة – ثم كتابها (كحلمٍ يليقُ بعنيك).. اليوم سأقفُ عند تحليل نص للكاتبة نغم عبود عسى أن يُعطي الجزءُ رؤيةً عامة عن الكل في نتاج هذه الكاتبة، النص:
تحت سقفٍ واحدٍ؛
جدارٌ أسمنتي،
وآخر..
من لحم ودم !
تحت سقفٍ واحدٍ، تحت سماءٍ واحدة، تحتَ قبةٍ واحدة مكورة تضمُّ تحت تجاويفها ما لا يخطر على بال المتلقي؛ بدأت الكاتبة نصها بهذه العبارة المطروقة لدى سامعيها، فلمعهود أكثر هو سقف البيت الذي يتربعُ كغيمةٍ فوق ساكنيه، ليقال: يعيشون تحت سقف واحد.. والسؤال الذي فرض عمقاً معيناً: ما هو الآدمي المخلوق من لحم ودم، ووجوده تحت ذاك السقف لا يقلُّ تصخراً عن ذاك الجدار؟ نص ومضي فرض بعداً تأويلياً عن حالةٍ نفسية ينضحُ فيها النص، وأي واقع هذا الذي فرض قسوة التشبيه.. والسقف هنا لفظة عالية الإيحاء، تحملُ شيئاً من السمو، ولكن حالة التهشيم تتدرج نزولاً، وقد يكون هذا السقف أبعد فكرة مما يتراءى لنا.. الوطن بكليته سقف عال، ويقبع تحته جداران مترنحان، أحدهما أسمنتي والآخر من لحمٍ ودم، وتحت أسقف البيوت الغارقة بتناقضاتها وهمومها وأوجاعها جدارات متنوعة أسمنتية بالفعل، وأخرى بلحمها ودمها أكثر تصخراً من رفيقتها.. وتصخّرُ الجدارات اللحمية تلك ما هو إلا نتائج طبيعية قادمة من أشياء كثيرة: (كالإهمال، البرود، القهر، التعذيب، الفقر، والقسوة بالتعامل..).. النص ومضة شعرية بحتة مكثفة تحتملُ أكثر من قراءة، قد نتشعبُ في تأويلها، والاحتمال الأقرب فيها أن تكون حالة خاصة، استرعت انتباه الكاتبة.. فكان نص شعري له رؤية ركزت على فكرة شعرية في إطارها البنيوي، وحضر إبداع الكاتبة من خلال إشراك المتلقي في تكوين رؤية نصها واستكماله، مُحاكيةً بذلك ذكاءه، تاركة له فسحة الكشف عن الدلالات المتسترة وراء الومضة.. كما التزم النص الكثافة والإيحاء والنهاية المدهشة والمفارقة التي انبثقت من موقف انفعالي ولحظة مأزومة بُنيت على هيئة صورة كليّة واحدة وعلى الوحدة العضوية.
فيما جاءت اللغة بسيطة موحية بعيدة عن الاستطراد والحشو، وبتكثيفها ذهبت لاكتشاف طاقة المفردة وما ترمي إليه بجوهرها لا بظاهرها.. اعتمدت على الصور الحسية، والتورية الشعرية.. إذا شبهت موصوفها اللحمي بالجدار الأسمنتي، وربطت الحسي بالمعنوي من خلال ربط خبايا النفس ومكنوناتها التي تتمحور على شكل سلوك قاسٍ بالجدارات الصخرية.. وفي قناعة الكاتبة، استحق هذا الجلمود أن يُضافَ كمعادلٍ معنوي للجدار الذي يحملُ هذا السقف لتصير أمام جدارين اثنين، وما تحمله الومضة من تأويل معنوي يقودنا إلى شعورٍ بالوحدة ربما نتيجة هذا الجمود.. فالشعور العاطفي فيه يأس وحزن وكانت أدوات التعبير عنه هي التراكيب والصور (وآخر من لحم ودم).. النص خلا من الأفعال خلواً لافتاً، وتُرك على سجيته غير مقترن بزمن، فهو ومضة أحدثت تأثيراً جمالياً من خلال الإيقاع الموسيقي والتشكيل الفني الذي ظهرت فيه.. نصٌ ضيقُ العبارة متسعُ الرؤى، فيه فراغات جدّ كبيرة ترك للمتلقى حرية ملء بياضاتها اعتماداً على ثقافته، رؤيته، وقناعاته..
تجاوزت اللغة الإطار المعجمي بصورها وأحدثت تلاحماً عضوياً بين اللحظة الشعورية والشكل الذي قدمت فيه، والنص بعتبته النصية ومفارقته وخاتمته اتكأ على حقول دلالية محددة وثنائيات ضدية مفتوحة التأويل، وحقق شروط الومضة الشعرية إيحاء وتكثيفاً ورؤية..