وداعاً مظفر.. والرحيل لم يندمل
ادريس هاني
لن تعرف معدن الكلمات إن جهلت أو تجاهلت منبع هذا الاحتراق، فالشّعر ثورة عارمة ضدّ الاغتراب، ولكن مفارقة هذا التموجد السّائل والمضطرب، هي أن تقويض الاغتراب يقذف بك في الغربة؛ لا خيار. كان مظفّر النواب شاعراً يحبك الشعر على منوال الغربة؛ شريداً مستأنساً، كأنّه يرى في ذلك ثمن الخروج من طوق الاغتراب، إنّه شاعر يدري أحياناً ما يقول وأحياناً لا يدري ما يقول؛ وهناك بالضبط، فيما لا يدري ما يقول تكمن ذروة الشّعر النّوابي، في قصيد “البقاع البقاع”، يتدلّى الحزن من مآقي مظفّر، عابراً نحو الـ: ها هناك، حيث لا أفق ولا مرفأ، حيث يقول:
لم يعد في المحطة إلّا الفوانيس خافتة
وخريف بعيد… بعيد
وتترك حزنك بين المقاعد ترجوه يسرق
تعطي لوجهك صمتاً كعود ثقاب ندي
لست في نعي مظفّر آت بجديد، من لم ينعه لحظة فيض عبقره، لم يفعل شيئاً، فلقد حمل تابوته في كلّ آه و شهيق، حروفه موكب جنائزي موصول عبر صبيب الأيّام. أنعاك بما أمكن، ولي في مظفر نعيّ آخر:
أنعى رحيل المعنى
فتشوا جيوب مظفر
عن ذلك المفتاح
كي لا يدفن
مع الجثمان بدار السلام
أخشى ردى الكلمات
أن ترحل معه كالظّلال
أقاموا للفقيد سرادقات
هل للكلمات عزاء
رحلت وما الرحيل بدعة
كيف الرحيل لراحل
أضناه التيه والغربة
الموت حقّ
فلا ضير من مجازي
والنعي حقّ
والحزن قاسٍ
رحيل كهذا ينكث الحنين
لفظ الفقيد أنفاسه
والمعنى
نعته عواصم العُرب
بلا كلل
ومن استوطنت في وجدانه..
كلمات مظفّر
بقايا رعيل نادر
صقيل المعدن، لامع
صنع من وجع الغربة
قصائد هائجة
كالموج يلطم الصّخر
ثم يتشظّى
وأنين البواكي ورجع الصدى
احتراقُ الفؤاد ونزيفُ المآقي
ولوعة هائمة في اللاّمكان
وحنين ثلاثي الأبعاد
كاتب من المغرب
“قلبي يحدثني”..