العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا أو المنعطف الجيوستراتيجي الكبير

إدريس هاني:
في عبارة لدوستويفسكي في “الأبله”، وهو الكاتب الروسي الكبير الذي خبر الأحاسيس البشرية بصورة نادرة، يقول: “يبدو لي أنّ الإنسان، متى ما دهمته كارثة يتعذّر عليه تفاديها، كما لو تعلق الأمر بانهيار منزل فوق رأسه على سبيل المثال، فينتابه حينئذ شعور برغبة عارمة في أن يغمض عينيه، وليكن ما يكون”.
أسعى هنا لتوسيع الفكرة نفسها بخصوص العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا. يعيدنا العنوان إلى أهمية المفاهيم وخطورة المُلاوغة الإعلامية، بهذا المعنى هي عملية دفاعية في معركة مفروضة ويحيلنا العنوان الفرعي على أنّنا أمام انقلاب في قاعدة كلاوزفيتش، أي أنّنا لسنا إزاء حرب هي امتداد للسياسة فحسب، بل حرب تؤسس لبداية سياسية جديدة، ليست مدهشة، لأنّها كانت متوقعة، وأدرك الروس أنّ العالم مهيأ اليوم لاستيعابها، حيث باتت جزءاً من انتصارات العالم، نحن إذاً أمام منعطف جيوستراتيجي كبير، لن يكون العالم فيه قبل العملية الروسية هو نفسه ما بعدها، جزء من انتصارات المنظومة الثالثية بدأ يتحقق، روسيا تخوض حرباً جيوستراتيجية ذات أبعاد دولية.
سمعت الكثير عن أسباب وأبعاد هذه الحرب، الأسوأ من بين تلك القراءات، تلك التي تعدها مجرد اندفاع شخصي من بوتين مبني على حسابات خاطئة، وهذا كلّه متوقّع، لأنّ الحروب الكبرى لا يمكن أن تقرأ في وسائل إعلام وظيفية تعود إلى محاور جيوسياسية، وظيفتها التبرير لا التفسير.
يبدو أنّ من قرأ العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا بناء على الصورة التي تشكلت في وسائل الإعلام الغربية وتوابعها، سيعتقد بغباء كبير، أنّ بوتين لم يفعل سوى التعبير عن طيش عسكري. والحقيقة أن بوتين هو أذكى من أن تستدرجه القوة التي ناهضها منذ الحرب الباردة، إنّ بوتين لم يقبل أن يغمض عينيه أمام هول ما كان الغرب يخطط له على مقربة من الحدود الروسية؛ لن يكون كأبله دوستويفسكي، لقد عبر بوتين عن تفوقه بمجرد ما بادر إلى حرب يدرك أنّها إعادة وضع النقاط على الحروف مع المعسكر الغربي.
لقد استعمل بوتين واحدة من أهم أربعين رمية في الجيدو، أي الإيبون -أو سيوناغي بالجوجيتسو والآكيدو-وهو فنّ يتقنه بوتين، وهو ما يسمى بالنقطة الكاملة لما يتحقق إثرها التثبيت الكامل، عملية تقتضي سرعة فائقة وقوة في محلّها، ألم يكن أولى أن تقاوم أوكرانيا الضغط الإغوائي لـ”ناتو” بدل أن تخوض مقاومة كوميدية ضدّ الروس في حرب مفروضة، نابعة من تحرّش جيوستراتيجي بروسيا بالغ الخطورة.
يبدأ الخطأ في تقييم الحروب ذات الأبعاد الجيوستراتيجية، حينما تختزل في حوادث سير في أوتوستراد السياسة الدولية وعلى هذا الأساس نجزّئ المواقف، فنقع في المفارقات، هناك من يرفض الموقف الروسي لأسباب تتعلّق بموقفه من العملية الروسية في الشيشان، هناك من يرفضه نتيجة تضامنه مع سورية، هناك من سيجد في التضامن مع روسيا حرجاً سببه أحاسيس عميقة ومواقف إيديولوجية يصعب اقتلاعها، هؤلاء لن يفهموا شيئاً من أسباب وتداعيات هذه الحرب اقتراب “ناتو” أو أدواته من الحدود الروسية هو إعلان حرب.
في مثل هذا النمط من الحروب، وجب أن نستحضر المقاربة النسقية وحين نتحدث عن المنعطف الجيوستراتيجي الكبير، فلأنّنا ننظر إلى الأحداث كمخرجات لنسق تفاعلي حتى الأسباب، يتعين قراءتها من منظور بنيوي غير معزول عن النّسق.

تفكك الاتحاد السوفييتي لا يعني سقوط روسيا؛ تأمّل ذلك الصاروخ العابر للقارات، كلما بلغ مسافة معينة تخلّص من بعض القطع التي تؤمن له دفعاً إلى حدّ استنفادها، لكن الصاروخ سيصل إلى هدفه النهائي لقد تخلصت روسيا من حمولة الاتحاد السوفييتي، وهي اليوم أقوى، ليس لها من فاتورة تؤدّيها سوى ما يمكن استغلاله من قبل “ناتو” داخل دول الاتحاد السوفييتي سابقاً أمّا أوكرانيا، ففضلاً عن أنّها بوابة إلى روسيا، إلاّ أنّها تمثل الخطّ الأخير للروس، لنتذكر أن “كييف” كانت عاصمة لروسيا في تأسيسها الأوّل، أوكرانيا إمّا أن تكون حليفة للروس أو مستقلة عن “ناتو” أو حليفة لـ”ناتو” وفي الحالة الأخيرة يعني الحرب، والأبله من حاول اختبار الذّكاء والجهوزية الروسية فدخول “ناتو” إلى أوكرانيا يعني دخول فضاء الثقافة والذاكرة المشتركة، أي سنجد كتلة من السلافيين والروس في هذا المجال الحيوي، جزء من جبهة “ناتو” هناك عناصر وحسابات أكبر مما يمكن تصوره في هذه الحرب، إنّها تضرب روسيا في كبريائها وميراثها الاجتماعي والحضاري وذاكرتها العميقة؛ بتعبير آخر، هناك جزء من صدام حضاري في هذه الحرب. روسيا قوة حقيقية، لا تعتمد في نموّها على الموارد الطبيعية والبشرية المنهوبة من الأمم الأخرى، لم تحقق قدراتها الاقتصادية من موارد الاستعمار، وليست هبة لعصر الميركونتيلية.

في مقابل ذلك، يتراجع الغرب، لأنّ تعاظمه ناتج عن النهب والاستعمار منذ بروتن وودز والاقتصاد الغربي قائم على ما هو أخطر من ريع الاستعمار، إنّه اقتصاد يقوم على الوهم، عملة ورقية لا تنطوي على قيمة مالية حقيقية حتى القوة العسكرية لم تعد قادرة على تحقيق مكاسب سياسية ما يبدو لنا قوة، هو في الحقيقة اندفاع يقوم على القاعدة الأولى في ميكانيكا نيوتن، أعني قانون القصور الذّاتي أو العطالة (Inertie) الغرب يعيش على ذلك الاندفاع، ويحتاج إلى قوة خارجية توقف زحفه، وإلاّ لن يقف أبداً وفق مفهوم العطالة، وتلعب المقاومة بمستوياتها المختلفة دوراً في إيقاف هذا الزّحف، لقد فقدت قوة الدفع وهي تبدو زاحفة بموجب قانون القصور الذاتي لأنّها لا تجد قوة خارجة توقفها، هذه القوة بدأت تتبلور اليوم، في صورة أقطاب، هم اليوم في وضعية مقاومة.
ثمة سؤال يجب أن نتجاهله، لأنّه يشوّش الرؤية، هو: هل سيكون النظام العالمي الجديد متعدد الأقطاب في مصلحتنا؟ والحقيقة أنّ نظام القطب الوحيد هو مضرّ بالسلام العالمي، بل مضرّ بالقوة العظمى نفسها، لأنّها ستجد نفسها في حالة ذُهان قووي سينتهي حتماً بالتّآكل الذّاتي، العالم اليوم مهيّأ لنظام متعدد الأقطاب؛ وسيكون من شروط العالم الجديد إعادة بناء النظام الاقتصادي الدولي بصورة أكثر عدالة، لعلّ أهمها إنشاء عملة دولية تخضع لرقابة دولية، تحمل قيمة مالية حقيقية. اقتصاد لا يقوم على عقود إذعان إمبريالية وتقسيم استعماري للعمل، وتوزيع غير عادل للثروة. نظام عالمي جديد إنّما يعني نظاماً لا يختزل في تحكم صندوق النقد الدولي والبنك العالمي ومنظمة التجارة العالمية، بل نظاماً يقوم على إنتاج ثروة حقيقية، على تنمية عالمية تقضي على رواسب الميركوتيلية الإمبريالية. نظام لا يشجع على الآبرتهايد ولا على الاحتلال، ويمنح القوى التحررية مساحة لتحقيق أهدافها.
في العملية الروسية في أوكرانيا، ارتفع الروبل، وتراجع الدولار، وهو يعطي صورة عن مستقبل مُمكن وأكثر واقعية، لقد سقطت أسطورة الرأسمالية الغالبة، رأسمالية نهاية التّاريخ.
ما لا نتصوره هو تراجع روسيا في هذه الحرب من دون مكتسبات التراجع في هذه الحرب، فضلاً عن أنّه خطأ فادح لن تسقط فيه روسيا وهي في حالة انتصار على الغرب، هو أخطر من الوضع ما قبل الحرب، تراجع كهذا يعني محق الهيبة الروسية، وهو ما سيحدد موقعاً ضعيفاً لروسيا في عالم الغد. دخلت روسيا الحرب وهي واثقة من ربحها منذ الحرب العالمية الثانية لم يوجد من “يربّي” هذا الغرب المستكبر، لقد أصبح بوتين قائداً لحركة تحرر عالمي، لأنّ عالم الغد بانتصارات العالم الثالث والدول الصاعدة، يتطلع إلى ما بعد الانتصار الروسي. هناك من لا زال يؤمن بالقوة الخالدة للغرب، وأنها خاتمة الأنماط والغلبة في تاريخ النوع، هؤلاء حتماً ستصدمهم مخرجات العملية الروسية في أوكرانيا.
كاتب من المغرب

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار