بعد احتلال أفغانستان من الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها لحوالي عشرين عاماً وما رافق هذا الاحتلال من خراب أفغانستان ودمارها وقتل أبنائها وتدمير اقتصادها وبنيتها التحتية، بعد هذا العناء والظلم الذي تحمّله الشعب الأفغاني، قامت أمريكا بالانسحاب الفوري وغير المدروس من هذه الدولة الفقيرة بين عشية وضحاها، تاركة وراءها عملاءها ومعداتها العسكرية البرية والجوية التي أصبحت ملكاً لحركة “طالبان”.
الذي يقرأ الحدث الأفغاني يرى أن هناك عملية (استلام وتسليم) بين الولايات المتحدة الأمريكية وحركة “طالبان”، ومن هنا جاء السؤال ماذا بعد، وكيف سيتم استثمار الحركة في حلتها الجديدة بعد أن أجرت ببراغماتية بعض التعديلات على خطابها وممارساتها؟
قبل الإجابة لابد من الإشارة إلى تزامن دخول الحركة القصر الرئاسي في كابول وبالتالي السيطرة على البلاد، في 15 آب الماضي، مع تحذيرات دولية من الاعتراف بالحركة، حيث دعت العديد من الدول في مواقف فردية أو من خلال الاجتماعات الدولية إلى التحذير من مغبة التعامل مع الحركة الأمر الذي دفع الأخيرة لتجد نفسها مدفوعة بعدد من العوامل التي من شأنها تغيير خطابها السياسي، وإبدائها مرونة في بعض ممارستها في الداخل الأفغاني، بالرغم من تضارب تصريحات قياداتها في بعض القضايا، ما ساعدها على إبداء بعض البرغماتية.
وتتمثل أبرز العوامل التي دفعت الحركة إلى التغيير ظاهرياً في نقطتين أساسيتين هما: إدراك “طالبان” تأثير العزلة الدولية على حكم أفغانستان: 2- محاولة الحركة استرضاء الداخل الأفغاني ببرغماتية اكتسبتها في مرحلة إعادة التأهيل.
لنعترف أنه لا يمكن الحديث عن “حركة طالبان” إلا بوصفها تَنويعًا على “عَالَمٍ طَالباني” ينتظمه تصوّرٌ كُلّي لِمَاهِيّة الإيديولوجية التي تحكم عملها السياسي، بمعنى أن “طالبان” قبل أن تكون حركة، هي فكرة/ أيديولوجيا، وستبقى الفكرة مُخَططاً قابلاً للتنفيذ في كل آن وفي كل مكان؛ حتى لو تلاشت الحركة بالكامل، ورفع آخرُ أفرادها الرايةَ البيضاء، بل حتى لو انقلب مُؤَدْلجوها -على أعقابِ تصوراتهم الدوغمائية-.
بالعودة إلى الانسحاب الأمريكي من أفغانستان والسلاسة التي تم فيها الدخول إلى كابول من “طالبان”، يمكن القول إن الهزيمة الأمريكية أو الانسحاب من أفغانستان خلق فراغاً في تلك المنطقة، واشنطن ترتكب خطأ قاتلاً جديداً بمحاولة إعادة تأهيل “طالبان” لأن الأخيرة لن تستطيع أن تتغير بما هي عليه وإنْ ادعت خلاف ذلك لأسباب تكتيكية. وسوف تكون بحلتها الجديدة -إن تحققت- بداية لحقبة دموية مظلمة أخرى في تاريخ أفغانستان.
أما من يعتقد أن السلام سوف يعم أفغانستان من منطلق أن “طالبان” قد تغيرت وأنها استوعبت الدرس ولن تكون كما كانت سابقاً لجهة الالتزام بالأعراف والمواثيق الدولية فهو واهم جداً.
ويذكرنا خطأ واشنطن الأفغاني الجديد بالخطأ القديم زمن الرئيس الأسبق رونالد ريغان الذي ورث الملف الأفغاني من سلفه جيمي كارتر في نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات.
من جديد يعود العامل الأمريكي بعد عقود ليكون هو من يرسم المشهد الأفغاني وعليه يمكن القول إن ما حصل في أفغانستان مع الانسحاب الأمريكي هو نتيجة خطأ إستراتيجي أمريكي- غربي أو بتواطؤ وتخطيط شيطاني، له ارتدادات سريعة ومتوسطة وبعيدة المدى، فحركة “طالبان” بشعارها المعروف هي بوابة لما يحصل وسيحصل في العقدين القادمين، والموضوع أكثر من ظهور نسخة جديدة من الإسلام السياسي، بل تغيير للسياسات ومنظومة الحكم.
وهكذا فإن ما جرى ويجري في أفغانستان أثبت العكس تماماً، وأن الثوابت الأمريكية هي أن لا ثوابت إطلاقاً، وأن السياسة الأمريكية أن لا سياسة محدودة، وأن القيم والمبادئ الأمريكية هي أن لا قيم ولا مبادئ، وأن حليف أمريكا هو اللاحليف، وأن كل شيء قابل للتغيير والتضحية به مقابل ضمان المصالح الأمريكية فقط.
ويرى بعض المحللين السياسيين أن الانسحاب الأمريكي من أفغانستان ليس إلا ترجمة للإستراتيجية الأمريكية القائمة على أساس تثبيت مصالحها من خلال زرع الأرض بالفوضى وإثارة الفتن والتقاتل من دون تكبد الخسائر المكلفة، وما يعزز فكرة نجاح إستراتيجية تثبيت المصالح الأمريكية هو التاريخ نفسه حيث أن الولايات المتحدة الأمريكية لم تدخل أو تجتاح بلداً إلا وتركته ممزقاً تتنازعه الحروب الطائفية والعرقية، محروماً من أبسط مقومات الإنسانية والعيش الكريم، وبلا دولة قوية منهوب الثروات المجيرة لمصلحة مافيا تأتمر بأوامر الغرف الأمريكية السوداء.
قد يبدو للبعض أن “طالبان” اليوم تختلف عن “طالبان” (الملا عمر) خصوصاً بعد بيان “طالبان” الذي تعهدت فيه بعدم زعزعة الأمن مع دول الجوار وحفظ الحريات الدينية وضمان عدم استقبال أو تدفق الإرهابيين من وإلى دول الجوار، إضافة إلى ضمان سير الخط التجاري بين دول آسيا الوسطى وروسيا والصين بمباركة جميع الأطياف والعشائر الأفغانية، فأمريكا تجيد لغة اللعب على التناقضات العشائرية والطائفية، وتحترف تجيير الخراب لمصلحتها، ومن أجل بسط نفوذها عن بعد ولكن بواسطة الأدوات المحلية، تماماً كما حصل في العراق وسورية ولبنان، ومما لاشك فيه أن الانسحاب الأمريكي السريع من أفغانستان جاء لتحقيق أهداف أمريكية البعض منها معلن ليبقى بعضها السري غير المعلن هو الأهم.
أكاديمي وكاتب عراقي