يصعب الذهاب إلى أنّ أهاجي الحطيئة لم تكن وليدة الظرف الموضوعي المبسوط في تاريخ الأدب، بل كانت، قبل سواها، وليدة العبقرية، ونتيجة التكوين الشخصي الذاتي للحطيئة الشاعر الذي تعلّم نظم الشعر، وامتلك رؤية جمالية خاصّة به، تمثّلت في جميع ما نظمه من شعر. ونحن لا نستطيع، في طبيعة السياق التاريخي، تنحية العوامل الموضوعية المتمثّلة بمجمل الظروف السيّئة التي اكتنفت ولادة الحطيئة ونشأته، ولكنها عوامل ضئيلة الشأن ضافرت سواها من عوامل أخرى، فالأغلبية الساحقة من المسحوقين اجتماعياً تتعايش مع ظرفها المتدنّي السيّئ، ويمكن أن تسعى إلى تغييره بوسائط – عنيفة أحياناً – كالانتفاضات التي أحدثها المقهورون والمحرومون عبر التاريخ، أو بوسائط فردية متمثلة بالسعي نحو تحسين الأوضاع الفردية، ولكن الذين انتهجوا نهج الحطيئة ينتمون إلى خانة الندرة كما أسلفنا، هناك في الهند لدى الهندوسيين الذين يشكلون معظم الكتلة السكانية في ذلك البلد الكبير، طبقة سفلى تُدعى طبقة المنبوذين الذين لا يحق لهم تجاوز شرطهم الاجتماعي إلا بالموت والولادة مرّة أخرى في طبقة أخرى، وأفترض أنّ العبقريات الفنّية يصعب استنباتها في مثل تلك الظروف.
كان تصوير ذوي العاهات الاجتماعية، وتصوير الآفات التي تخترم بعض المجتمعات، أو تسودها، من الموضوعات الأثيرة التي اجتذبت الشغل الفني، فكانت الكوميديا الإغريقية، على سبيل المثال، هي التي تصدّت لذلك، ثم كان فن الرواية والقصة والدراما في عالمنا المعاصر، وكان أيضاً فن الكاريكاتور، والفن التشكيلي. وكان الهجاء في تراثنا الثقافي القديم، وكان لذلك الهجاء وقعه الحاسم المؤلم في تلك الآناء؛ فالقول الذاهب إلى وجود قبائل وأشخاص ذهب فنّ الهجاء بكرامتهم قول مستند على سياق ثقافي/اجتماعي يمكن أن نضرب عليه مثال (بني نمير) في أحد أبيات جرير، والزبرقان بن بدر في قصيدة الحطيئة السينية «دع المكارم لا ترحل لبغيتها.. واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي» وشخص اسمه (تسنيم) في أحد الأبيات اللئيمة لبشّار بن برد، إضافة إلى العديد من خلفاء بني العباس وبني أميّة، في أهاجٍ عديدة تناولتهم، ونالت من بعضهم، كهجاء المعتصم بلسان دعبل الخزاعي على سبيل المثال، ولأن المثالب والمخازي، وغيرهما من الآفات الاجتماعية والفردية المذمومة هي الأكثر اشتمالاً لمعظم المجتمعات قال الشاعر عبدان في تفضيل الهجاء على المديح:
“وقالوا في الهــجاء عليك إثمٌ وليــــس الإثم إلاّ في المديحِ
لأنّي إن مدحتُ مدحت زوراً وأهجو حين أهجو بالصحيحِ”