قد يكون من الصعب اعتبار ما يسمى “مشروع الشرق الأوسط ” جديداً في حد ذاته، ليس لأن ثمة مشروعات أميركية قد سبقته، وإن اختلفت في أبعادها ومضمونها وتوقيتها والظروف التي طرحت فيها، إلا أنها تعكس جميعها هاجس السيطرة والهيمنة على المنطقة العربية، وفرض صيغ أمنية وسياسية واقتصادية وتعليمية مختلفة.
السيناريوهات الأمريكية، وإذا ما مضت في محاولات التنفيذ، فإنها بلا شك ستقود إلى مزيد من التفكك العربي، وإلى محاولة فرض نفوذ كيان الاحتلال الإسرائيلي على المنطقة العربية في إطار ما يسمى “مشروع شرق أوسطي جديد” تخطط وتعدّ له القوى الكبرى، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية .
فكلما تصاعد الاتجاه العالمي، نحو ضرورة إقامة “اتفاقيات للسلام”، بذلت الولايات المتحدة والغرب عموماً جهوداً إضافية من أجل تغيير خريطة القوى السياسية في المنطقة، ومحاولة إقامة “شرق أوسط جديد” يكون الهدف الأبعد طمس وتلاشي الهوية العربية، وتصبح كل دولة عربية مرتبطة، على نحو أو آخر، بمصالح وسياسات خارجية، بينما تظل “إسرائيل” هي صاحبة اليد العليا والعقل المدبّر.
هذا، وما لا تستطيع السياسة أو حتى القوة العسكرية تغييره، يعتقد الغرب أنه يمكن أن يتغير من خلال القوى الناعمة، وعلى رأسها آلية التعليم في تيسّر السيطرة الاقتصادية والسياسية.
إذا بدأنا بالتغييرات التي تم تناولها من قبل، والتي أدخلت على بعض أنظمة التعليم في دول مجلس التعاون الخليجي والدول العربية الأخرى، ورغم أن الدول العربية هي التي سعت إلى جلب وفتح المجال أمام مؤسسات التعليم الأجنبية، فإن التشجيع والترحيب لا ينفيان وجود توجّه عام ومصالح سياسية متضمّنة في ربط أنظمة التعليم العربية بالرؤية والتوجهات الغربية، وكثيراً ما نُشر عن ضغوط من جانب الولايات المتحدة على حكومات الدول العربية، بعد احتلال العراق والمؤامرة ضد سورية واليمن وليبيا والسودان، لتغيير مناهج التعليم، لأنها، وفقاً لاعتقادها، تشجّع على “التطرف والإرهاب”، ورغم النفي الدائم من جانب الحكومات العربية المختلفة بشأن وجود أي ضغوط أجنبية للتغيير، فهذه المقولة مازالت حاضرة في أذهان الكثيرين من أبناء الوطن العربي، وقد نُشر بعض أجزاء من تقرير حول “خطط واشنطن لتغيير المناهج التعليمية في مصر والعالم العربي” أعدته الولايات المتحدة عقب أحداث الحادي عشر من أيلول، ووافق عليه الرئيس الأمريكي وقتئذ جورج بوش، ويستند التقرير إلى الزعم بأن كثيراً مما يوجد في المناهج الدراسية في مصر والدول العربية يولّد الكراهية لأمريكا والغرب، ولذلك يقتضي الأمر ضرورة العمل على إيجاد صيغة ملزمة للتعاون بين الدول العربية والولايات المتحدة لإجراء التغييرات في مختلف مناهج التعليم وعبر مختلف مراحله، بدءاً من المرحلة الابتدائية وحتى المرحلة الجامعية.
وفي أحدث تقرير أعدّته خدمة الأبحاث في الكونغرس الأمريكي في تموز 2020 تبيّن أنه نظراً لاستمرار الحرب ضد الإرهاب وتزايد ما سمته “العنف” في «إسرائيل» والضفة الغربية وقطاع غزة أطلق وزير الخارجية الأمريكي السابق بومبيو وقتئذ، مبادرة أطلق عليها مبادرة الشراكة في الشرق الأوسط، وهو برنامج مصمم، وفقاً لتصريح الوزير الأمريكي، “لاستمرار وتعميق التزامات الولايات المتحدة تجاه المنطقة، ومساعدة شعوبها على تحسين حياتهم اليومية ومواجهة المستقبل بأمل”! وتركّز المبادرة على ما يطلق عليه العناصر الناعمة في السياسة الخارجية الأمريكية، وتشمل: المساعدات الأجنبية، التجارة، التعليم، والديمقراطية. كما قسّمت أهدافها إلى أربع فئات: الإصلاح السياسي، الإصلاح الاقتصادي، الإصلاح التعليمي، وتمكين المرأة.
وفي إشارة إلى البعد السياسي غير الصريح وراء التوسع في مؤسسات التعليم الأجنبية، ذكرت إحدى الشخصيات التي رأست مركزاً للدراسات الخليجية في الدوحة بشأن الأموال المنفقة على هذه المؤسسات، بأن «الاستثمارات في التعليم الأجنبي باهظة، ولكن هذا أفضل استثمار يمكن عمله، والأمر لا يتعلق فقط بالمهارات الفنية، ولكن يمكن لجامعات الغرب أن تستحوذ على العقول الشابة التي في غيابها قد تصبح متأثرة بالاتجاهات الإسلامية الثورية»، كما ذكر أحد الأساتذة في جامعة جورج تاون أن «مدينة التعليم» في قطر يمكن أن تشكل بداية نهضة في الوطن العربي تحول المنطقة من “التطرف إلى الاعتدال”، وذكر أستاذ أمريكي آخر أن تبادل وجهات النظر مع الطلبة العرب كان أحد الدوافع الرئيسية لفتح مقر فرعي في مدينة التعليم في قطر، فـ«هي فرصة ممتازة لإحداث تأثير في النخبة في المنطقة، فنحن لدينا فرصة للتأثير الحقيقي في كيف يفكر الناس في هذه المنطقة، ولم أكن أرغب في الغياب عن هذه التجربة».
وهكذا، كان البديل هو علاقة غير متكافئة مع العالم الغربي يسيطرون بها على عقول وفكر الشباب العربي، وإذا كان من الممكن تصور أن تصدر هذه المقولة عن الأجانب، باعتبارهم الطرف صاحب المصلحة، فكيف يمكن أن تصدر عن شخصيات عربية تعبر بهذه المقولة عن عجز دولها الكامل عن القيام بمهام التنوير والإصلاح؟.
ومن الأدلة أيضاً على أن إقامة فروع للجامعات الأمريكية في الدول العربية يمكن أن يستخدم كأداة للضغط على الأنظمة العربية لإقامة علاقات طبيعية مع «إسرائيل»، ما نشر مؤخراً عن أن جامعة كونكتيكت أبلغت لجنة التعليم في مدينة عربية خليجية أنها (أي الجامعة) أوقفت خططها لإقامة فرع لها في هذه الدولة بسبب الضغوط السياسية في الولايات المتحدة، وأن أعضاء الجمعية العمومية لكونكتيكت لن يوافقوا على الصفقة حتى تتبنّى الدولة عينها توجهاً موالياً لـ”إسرائيل” فيما يتعلق بعلاقتها بـ«إسرائيل»، وأن تعمل أيضاً على تحسين سجلها لحقوق الإنسان في التعامل مع العمالة المهاجرة، ولهذا ركزت الولايات المتحدة الأمريكية خططها التربوية في المناهج الجديدة بمشروع الشرق الأوسطي الذي يأخذ على عاتقه تسييس التعليم في الوطن العربية وغرس الكراهية والحقد في نفوس الشباب وبناء قاعدة تعليمية حسب توجيهات الولايات المتحدة الأمريكية في الوطن العربي.
باختصار استمرارية المشاريع المسماة “الشرق أوسطية” التي ما فتئت الإدارات الأمريكية المتعاقبة تعمل على تنفيذها في دول المنطقة،وبرغم الشعارات البراقة التي ترفعها هذه المشاريع كدمقرطة وتنمية المنطقة، إلا أنها في الحقيقة تسعى لتحقيق أهداف الإستراتيجية الأمريكية فيها والممثلة في حماية المصادر النفطية بالسيطرة عليها ومنه التحكم في اقتصاديات الدول المنافسة لها، وحماية الأمن الإسرائيلي باستنساخ نظام هجين شرق أوسطي عوض عربي، إعادة تشكيل التحالفات الإقليمية من خلال بناء تحالفات جديدة، وأخيراً ضرب دول المقاومة العربية المتبقية من خلال تضييق الخناق الاقتصادي و السياسي على سورية مثلاً واستخدام أدوات الحرب الناعمة لإحداث التغيير المطلوب وهذا أخطر ما في المشاريع الأمريكية.
أكاديمي وكاتب عراقي