أعلنت واشنطن مؤخراً أن إيقاع انسحاب قواتها من أفغانستان مرشح للتباطؤ في ظل التزايد اللافت في تحقيق حركة طالبان لمكاسب على الأرض، لكن العاصمة الأمريكية لفتت إلى أن ذلك لن يؤثر في حال على الموعد النهائي المحدد سلفاً للانسحاب في 11 أيلول المقبل.
الانسحاب الأمريكي و”الأطلسي” من أفغانستان بعد عشرين عاماً على الغزو، لم يكن قراراً اختيارياً؛ بل هو قرار فرضته مسيرة الحرب الفاشلة التدميرية في هذا البلد، وعدم قدرة القوات الأمريكية والحليفة على تحقيق نصر كانت تأمله، أو أن تحقق أياً من أهدافها في حروبها وغزواتها تحت ذرائع وحجج مختلفة ، وهو الأمر الذي جعلها أي الولايات المتحدة تدفع ثمناً كبيراً في هذه الحروب ، بشرياً ومادياً، من دون جدوى؛ لذلك كان قرار الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب الانسحاب من أفغانستان والتمهيد له بالاتفاق مع حركة طالبان خلال مفاوضات مباشرة في الدوحة في شباط 2020، ومن ثم قرار الرئيس الحالي، جو بايدن، بتحديد الأول من أيار المقبل موعداً للانسحاب، على أن يستكمل في 11 أيلول في الذكرى العشرين لهجمات نيويورك وواشنطن.
يعرف الأمريكيون وحلفاؤهم جيداً أنه خلال السنوات الطويلة والمريرة في الحروب على أفغانستان والعراق والعدوان المتواصل بأشكال مختلفة على سورية، وعندما لجؤوا إلى مبدأ قياس “نجاح” حروبهم بعدد الأطنان من القنابل التي يلقونها فوق رؤوس البشر ، وعدد القتلى التي يحصونها بعد كل عدوان وقصف أن ذلك لم يؤدِّ إلى تحقيق أي نصر، وأن كل ما استطاعوا تحقيقه في أفضل الأحوال هو قتل الأبرياء وحرق الزرع والضرع والحجر، وتجويع الشعوب، وهذا ما تريده أمريكا، حسب مفهومها، وتكرر هذا السيناريو في العراق وسورية، وبالنتيجة كان لابدّ بالطبع عاجلاً أم آجلا أن تنتهي هذه الحروب إلى ما انتهت إليه في فيتنام ، وهو الفشل والانسحاب .
وفيما يتعلق بالعراق؛ تماطل الولايات المتحدة الأمريكية بشأن قضية سحب قواتها ، و تستغل تنظيم داعش الإرهابي على الحدود العراقية السورية لتبرير بقائها في العراق.
وبالعودة إلى الانسحاب من أفغانستان، فإن حرب أمريكا على هذا البلد تعد أطول حروب أمريكا في التاريخ وأكثرها استنزافاً للموارد البشرية والمادية التي كلفتها أكثر من تريليون دولار، وأكثر من 3200 قتيل، ونحو 21 ألف جريح، في حين خسرت قوات الأمن الأفغانية نحو 50 ألف جندي وآلاف الجرحى، أما عدد القتلى والجرحى من المدنيين فحدّث ولا حرج؛ لأنه لا توجد أرقام رسمية بذلك، واللافت أن الانسحاب يتم من دون شروط، وهو ما يعني الفرار من ساحة الحرب أمام طالبان، وهذا الأمر يعدّ في الحسابات الاستراتيجية هزيمة عسكرية .
الاستراتيجية الأمريكية العسكرية أقله منذ الحرب على العراق وحتى يومنا هذا أخذت تتأرجح أو تقوم على الشلل الكامل و الردع الذي تجلّى خلال حقبة بوش الابن و أوباما و ترامب، أما الإخفاق والتخبط والفشل، فمازالت آثاره باقية وممتدة حتى يومنا هذا، وستظل الآثار سائدة لفترات في المستقبل، وفي هذا الإطار كانت الاستراتيجية الأمريكية ترى أنه من أهم مقومات القوة العظمى، وأهم ما تحتاجه لإضفاء ما تسميه “المصداقية “على استراتيجيتها للأمن القومي، هو أن تكون هذه القوة قادرة على خوض حربين إقليميتين رئيستين في وقت واحد، ولكن بسبب عقدة (فييتنام وأفغانستان والعراق) وتجربتها المريرة في هذه الدول لجأ الكونغرس إلى الاكتفاء بخوض حرب رئيسة، فالحرب التي شنّتها الولايات المتحدة على شعوب منطقة العربية ومنها العراق وسورية كانت حرباً مدمرة لكنها خاسرة لجهة إمكانية تحقيق أهداف معروفة و واضحة، بل كانت حروب عرض للقوة الغاشمة لتدمير الأرض والإنسان العربي من أجل أن تبقى «إسرائيل» هي السيد .
إن الولايات المتحدة الأمريكية برغم قوتها مازالت تعاني حتى يومنا هذا من عقدة (فييتنام، أفغانستان، العراق، سورية) وكل الحروب في جنوب شرق آسيا، فإنه مازال يتحكم في عقلية القادة الأمريكيين، وصانعي القرار هناك تلك المقولة التي أطلقها الجنرال (مارك آرثر) عندما قال: «لا تتوغلوا في حرب برية فوق أرض آسيوية»، وإلى يومنا هذا فإن مقابر (آرلنجتون) بالقرب من واشنطن التي تضم رفات أكثر من خمسين ألفاً من خيرة الشباب الأمريكي لقوا حتفهم في حرب فييتنام و291 ألف جندي أمريكي لقوا حتفهم في حرب العراق.. هذه المقابر وهذا العدد من القتلى لعبت دوراً مهماً في تغيير المفاهيم العسكرية الأمريكية حتى لو كان ذلك على حساب مبدأ الحسم الذي يأتي في مقدمة مبادئ القتال.
أكاديمي وكاتب عراقي