في الجدوى
للحضور والغياب مفهوم نسبي يختلف باختلاف أهله ومادته من جهة، وزمانه ومكانه من جهةٍ أخرى، ولعلَّ في الندوات الثقافية والأمسيات والمعارض المختلفة والمحاضرات تتجلّى معاني الحضور والغياب بشكلٍ أكثر وضوحاً من غيرها، فالذي يحضر معرضاً فنياً لقراءة إشارات ومدلولات اللوحة شكلاً ولوناً ومعالم ودلالات هو غيره الذي يحضر للمس حالةٍ جمالية شكلية لها مدلولٌ واحد على الأغلب لا يتعدّى سطح الرؤية، كأن يعجبه منظر نهر أو شجرة أو بيت أو اتساع سماءٍ وبهاء ما فيها من نجوم أو وجه امرأة فاتنة.. إلخ، وكذلك من يحضرون أمسيةً أدبية من قصةٍ وشعر، تختلف أنماطُ نظرتهم باختلاف مستوى ملكات قدرتهم على سعة التخيل من جهة، وعلى عمق قراءة ما بين السطور، وهو الأهم، من جهةٍ أخرى.. وثمة من يُوجَد عدداً مفعولاً لأجله، على طريقة دعم صاحب الفعالية دعماً كمياً، وهذا الصنف عادةً ما يحضر جسداً ويغيب مضموناً، وهذا النوع من الحضور هو ما يمكن أن يُطلق عليه الحضور الذي يشبه الغياب، ولعلَّ الغياب أكثر جدوى، ذلك لأنه ربما يُستبدل استبدالاً موضوعياً بحضور حقيقي في مكِان آخر مناسب، يكون فيه الشخص أكثر قدرةً على إثبات ذاته وبالتالي حضوره الحقيقي، بإحضار الجدوى.
ولعلَّ هذا ينطبق على مفهوم الحضور والغياب في أي مكان ذي صفةٍ اعتبارية، وخاصةً الحضور الوظيفي بأنماط مفهومه الاعتيادي المتعدد، فالحضور يعني الإنتاج والفاعلية تقتضي الجدوى بغضِّ النظر عن حجمها ومداها، ولا جدوى من توهمها، لأنَّ ذلك حتماً سيكون على حساب عمل الآخرين وجهدهم، ولعلَّ هذا ما تحاول الأتمتةُ الحديثة التقليل منه والتخفيف من آثاره السلبية، وهو ما يُصطلح على تسميته حديثاً بـ«الحكومة الإلكترونية».. ويبقى الشيءُ المؤكّد هو أنَّ الحضور يعني الفاعلية, وهذا لا يُحتسب بمدى تحققها زمنياً بل بمدى القدرة على جعلها أمراً واقعاً متناسباً مع صاحبها وقدرته المادية أو المعنوية، أوكليهما معاً، على التفاعل والعطاء.
ولأهلِ الحكمة: من حضر شيئاً ولم يرضَ به كان كمن قد غاب عنه، ومن غاب ورضي كان كمن قد حضر.