منذ سنوات، لم يُتَحْ لي زيارةُ مكتبة ولا معرض كتاب!
منذ سنوات، بات التنقيبُ في خزائن الماضي عادةَ من نسيَ ما فيها، للوفرة التي كانت متاحة! والكتب لا تشبه الملابس المنسيّة في الخزائن لأنها مضادّة للزّمن والطُّرُز التي يفرضها بسبب التّجارة ومواسمها! هكذا كنت أظنُّ، قبل أن يعرض عليّ صديق إعارةَ روايتين لزوم العمل الإذاعيّ، وقد أخذتهما وفي البال أن أردّهما في أقرب وقت، تلبيةً للّاشعور الذي يرفض لَصَّ الكتب تحت أيّ ذريعة!
بدأت بالرّواية الفرنسيّة المترجمة التي لم أقرأ لكاتبها من قبل، وهي بخمسمئة صفحة وغلاف جميل، وبدايةٍ شيقة، تجري في مدرّجٍ جامعيٍّ، حيث يلقي الأستاذ محاضرته وتتعلّق به عينا طالبته العاشقة، لكن ما لبثت الأحداث أن خرجت من الجامعة إلى الشّارع والحياة، لتكشف للقارئ تعقيدات حياة البطل الرّوائيّ الذي أمضّه الحزن على زوجته الرّاحلة بحادثٍ مأسويّ، ومناعتِه ضدّ النساء الرّاغبات به، وكي يكون حشْرُ الشُّذوذ سلْساً في ثقافة العولمة، جعل الكاتبُ جارةَ الأستاذ الجامعيّ في المنزل نفسه، تخفيفاً لوطأة الأجرة، واحدةً من اللواتي يبحثن عن رفيقةٍ وزوجة! وخَطْفاً مرّ بخاطري ذلك الفيلم الشهير الذي طاف العالم «زواج أعزّ أصدقائي» وفيه مرَّرت السّينما الأمريكيّة الفكرة نفسها، لكنّها معكوسة، فهناك، العاشقة تتكّئ على صديق شاذ كي تصل إلى حبيبها، لعلّه يترك عروسه قبيل الزّواج ويختارها هي!
طويتُ الرّواية لحظةَ غادرَت فتاةُ الحانة سيّارةَ الشّاذّة قبل أن يتمّ الاتفاق على العلاقة الغراميّة، وتأكَّدتُ ثانيةً من اسم دار النَّشر، وهي دارٌ تحملُ وسْمَ بلديْن شقيقيْن مشهورين بحركة النَّشْر الواسعة، والكتب الثّمينة، ولم يخطر ببالي يوماً أن أجد مثل هذه الرّواية بين إصدارات دور تحمل أسماءً كبيرة، لأنها تشبه تلك الروايات السّاذجة التي كانت تُباع متسلسلةً في مجلاتٍ مصوّرة على الأرصفة، وشاعت في مسلسلات التلفزيون الأمريكيّة وبرامج الواقع، لتؤصّل فكرة الشذوذ، التي مؤدّاها النهائيّ تفكيكُ الأسرة، كآخر منظومةٍ تقف في وجه الرأسماليّة المتوحّشة!
انصرفْتُ إلى قراءة الرّواية الثّانية، المُذخّرة بأدبٍ رفيع، من دون أن يتوقّف حواري الدّاخلي، عن كيفيّة مواجهة هذه الثّقافة التي توَهّمتُ أن فضاءها هو الشّاشات والأفلام ومنصّات اليوتيوب وشعارات ما يُسمّى منظّمات «حقوق الإنسان» حتى فوجئتُ بفتاةٍ محافِظة على أحد مواقع الإنترنت، تروّج للكاتب ورواياته، واحدةً، واحدة، وتكيل لأسلوبه المديح العالي قائلة، إنه أشهرُ كتّاب العصر، وأكثرُهم ترجمةً للّغات الأخرى! فنحن إذاً نرضخُ للدّعايات الفكريّة والثّقافيّة، التي لا مهرب منها، تماماً كالضّغط الجويّ، فقد نعاني الحرّ والبرد والعواصف، ونتعامل مع كلّ حالة على حدة، أما الضَّغط الجويّ فيتحكّم بنا عبر كلّ حالات الطّبيعة، لكن بشكلٍ خفيّ لا مجال لمقاومته، يبقينا أسرى له، بمشيئة، أو بغير مشيئة، ومن طبيعة الضغط الجوّي أنه يكون عالياً في الأماكن المنخفضة، وضعيفاً في الأماكن العالية، فهل هناك أماكن أكثر انخفاضاً من الوطن العربيّ، لتنزل عليه مثلُ هذه الثّقافة، عبر التّرجمة، والترويج لكتّابها وأصحابها؟.