الانتصار المُؤلِم
تشرين- ادريس هاني:
حينما يتجاوز قائد الإبادة الجماعية كلّ القرارات الدولية وآخرها حكم المحكمة الجنائية، ليؤكد بأنّ قانون القوة هو القانون الفعلي للسياسة الدولية العميقة، حين يُخَيِّر أحياء مستعمرته بالموت أو الحياة تحت طائلة شروط المضطهد، لن نكون أمام جديد مدهش، بل نحن في صلب مقايضة الحياة بشروط العبودية، مشارطة على أساس ما سميناه الجدل المدمج كمخرج أفضل لجدلية الصراع بين السيد والعبد، تمتاح تلك الفكرة جذورها من زمن العبودية، حيث اقتضى المنطق الاجتماعي الأرسطي أن يساير النمط العبودي في مقولته: إنّ العبودية أفضل من الموت.
نفهم من كل هذا أنّ النتن ومن خلفه الإمبريالية المفلسة في قواها الناعمة تعمل اليوم على تحقيق الرّدة إلى المرحلة العبودية في تاريخ البشرية بعد صدام الجدل الكبير مع المدمج، ولتكشف من ناحية أخرى أنّ الإمبريالية في اختطافها لقيم الحداثة والتنوير، أدخلت العالم في عصر العبودية الناعمة قبل تفجير الوضع في الشّرق الأوسط.
لماذا الشرق الأوسط؟ باختصار؛ لكونه يشهد أكبر مقاومة تتجاوز مفهوم الصراع السياسي إلى مفهوم الصراع الحضاري. بها تكون المقاومة قد دخلت في معركة ضدّ هذه الرّدة التي تستهدف قيم الحداثة نفسها، وتواجه الردة الإمبريالية نحو عصر العبودية، إنّ الاحتلال فشل في إدارة الجدل الكبير، في إرغام المقاومة على الاستسلام لشرط العبودية، أي البوابة الإستراتيجية لتحقيق مهمة الردة إلى عصر العبودية، في هذا الانتفاض على الموت، في هذا المنعطف الذي يجعل العبيد يعدُّون هذا الموت هزيمة، هم يجهلون أن حياة أخرى ترتسم؛ انتصار على الإمبريالية على حافة الموت.
لكن هل يا ترى كان النتن موفقاً وهو يخير شعباً صامداً بين الموت والحياة؟ إنّ النتن يجر خلفه تاريخاً من العبودية يريد فرضها على العالم، وهو في حساب التاريخ أقل من أن يتحدث لغة روما العظمى، إنه سليل الشتات والعبودية، إنّه يتمثّل دور روما العظمى بحفنة من شذاذ الآفاق، يتوقف تاريخه على مخزون التقنية الحربية المعرّضة دائماً للصّدأ، وأيضاً لمكر التاريخ، وهو الفكرة التي تجعل الإمبراطور حيرانَ.
المعركة التي يخوضها النتن تمتاح من جدلية الصراع بين السيد والعبد، الفكرة التي ستجد طريقها إلى الفلسفة السياسية لليمين المتطرف، والتي تجد في أصول التلمود ما يصلح مَدْرَكا لهذا الجدل، أي الإبادة المقدّسة، يبحث النتن العبد الآبق عن جواب استسلامي من أمّة لم ترضخ، وهو هنا يعيش لحظات الهزيمة وبداية أفول إمبراطور مزيف، فالأَرَضَة تأكل كياناً فَقدَ مفتاح الدخول إلى الأسرة الدولية، إنّه بمثابة وعكة في جسد دولي جريح، وهنا تستبق ثقافة الهزيمة كل النتائج التاريخية القصوى، لتنشر الكآبة وروح الهزيمة، بينما الصامدون وطلائع التضحية لم يسلّموا.
يستغلّ تيار الهزيمة الوضعية المأساوية في ذروة المعركة، ليبنوا أحلام العبيد المخملية على ما تراءى لهم نهاية لأمّة تقاوم، وهي في مقاومتها بلغت الذروة، إنّ تكلفة أن تحرر عبيد الأرض، وتنقذ العالم من ثورة الخنزير البرّي، وأن ترسم معالم نصر بحجم التحدي، حيث الاحتلال تفصيل في نسق إمبريالي عظيم، كلّ هذا يصعب على العبيد استيعابه.
كنت أخشى على المقاومة من المقاربات الضحلة، من القراصنة، من المزايدات، من النجامة السياسية، من تجار الانتصار والهزيمة، من دكاكين النّفاق، من الخطاب غير المثقف، من الديماغوجية والمزايدات البهلوانية والتكرار المملّ، والحسابات الصبيانية.
الآن وقد حصحص الحق، وارتقت المقاومة إلى مقامها الأنطولوجي الفائق وفعلها التّاريخي الكبير، بالكلفة التي لا حدود لها، فالنتن غامر بشيك على بياض في لعبة الإبادة، والمقاومة أمضت شيكاً على بياض في التضحية، إنّ النتن أقلّ وزناً من أن يخوض حربًا بشروط أنطولوجية وتاريخية، إنّه صَئِيّ الخنزير، الذي يخفي وراءه رعباً من المصير المجهول، فالذين يقاومون يتمتعون بيقين لم يظفر به الاحتلال في كل نوبات هسترته الحربية، اليوم كشفت المقاومة عن هشاشة كيان يلوذ بالاغتيال ليخفي عجزاً بنيوياً عن صدّ ما لم يكن في الحسبان، فلقد بات عارياً تحت قصف المقاومة، وهي حيث ينبغي أن يقاتل تكبده خسائر مادية ومعنوية. هو يقتل وهم يقاتلون، في حساب المقاومة، فهي انتصرت بدمها على كيان لا يتحمّل اليوم حتى أن يلوذ بالهدنة، بل إنّه في حالة هروب إلى الأمام وإخفاء لعجزه باستهداف الحجر والبشر، لكن ماذا عن الذين يقاومون من مسافة الصفر؟ أما الذين يستهينون بالمعركة على مسافة الصفر، فهم يجهلون المعنى الخالد للفرسان، قريباً سيرتبك مكر القرصان أمام مكر التاريخ وقد بدا يلوّح بجبروت مقاومة هي أنبل ما أنتجت الأرض في التّاريخ الحديث، لا يملك أي قنّ أن يقدم دروسا بليدة على من حقّقوا الكرامة الفائقة والتحرر الأقصى، التكلفة عالية، لأنّ منسوب القهر أعلى، ناموا أيها العبيد قبل أن يذكر تاريخ المستقبل قريباً، أنّ صفوة من الفرسان صنعت مجد الأمم، فبعد تهجير الجنوب، خلا الميدان لخير من أنجبتهم الفحولة من العرب، هم وحدهم والسنديان والأرز والجبل.