جريمة انتحال ذاكرة ‏ ‏ انتحار الحقيقة بين ذاكرة العُصابي واستقالة المُؤرّخ ‏

تشرين- ادريس هاني: ‏

لا يوجد قانون يُجرِّم انتحال ذاكرة كما هو الشّأن بالنسبة لانتحال شخصية، ربما نظراً ‏لعدم الاكتراث بالأضرار التي تمسّ العقل والحقيقة، إنّ العالم غير آبه باستهداف ‏الذّاكرة، ولا باللصوصية التي تتربّص بحقيقة ما جرى وكيف جرى وما لم يجرِ إن ‏جرى كيف كان سيجري، كذلك لا قانون يجرّم سطو الخيال على الحقيقة، وتلك حكاية ‏أخرى، إن تغاضينا عليها سينبري من يسطو عليها بالانتحال، فيتسلسل الأمر ولن ‏نقف عند العلّة الأولى للحدث، إنّها لعبة تقليد الذّاكرة، لكنه تقليد يبلغ درجة قصوى من ‏العُصاب، ما يجعل موضوع التقليد ضحية لممتهن التقليد، وتلك مفارقة أخرى، أي ‏انقلاب التقليد على الأصل.‏

من يُجرّئ الكاذب المهني على التّاريخ؟ هل لأنّ الكذب على الأموات هي أقدم مهنة ‏للكاذب عبر التّاريخ؟ أليس التأريخ للكذب هو مقدّمة الواجب لتقويم الذاكرة؟ إنّ الرّواية ‏تعفينا من هذا العصاب، لأنها جنس أدبي يتيح علاجاً لمرضى الذّاكرة، فلقد كانت ‏مهمّة المؤرخ دائماً هي مواجهة الكذب على الذاكرة، يتحول الكذب من فعل واعٍ ‏وقاصد لصاحبه إلى عُصاب حين يصبح كذباً على الأحياء، لذا فشل المؤرخ في أن ‏ينهض بمهمّته في زمن الالتباس.‏

لقد بدا الولع بالذاكرة كبيراً في زماننا المنفلت، كما دخل فعل الاستذكار موضة سوق ‌‏«الريكلام»، وغابت كل المؤشرات والمعايير الضامنة للجودة، اختلط لباس ‌‏«الريكلام» مع لباس بعلامة، والمتلقّي مشدوه.‏

إنّ سطو الذّاكرة المزيفة هو مؤامرة على التّاريخ، التفاف على ما حدث بمتمنّيات ‏تُعززها مغالطة إعادة إنتاج الذّاكرة بأثر رجعي، تتناطح فيه الأزمنة، بل تُسلب ‏الأحداث من أسيقتها، ويتم تقويض الزمن التّاريخي للمفاهيم، اليوم باتت لعبة الذاكرة ‏فعلًا ترميمياً لبؤس الوعي والتجربة، حيث تكذب الذاكرة المزيفة على الأجيال بكل ‏وقاحة، وهو ذروة الكذب كما تصفه حنا أرندت، ففي بيدائنا، تدفّقت الذاكرة ‏المخرومة، لترميم فتوقها، ذاكرة تعيد تنسيق نفسها بكثير من الوهم، لكنها لا تحيل إلّا ‏على متمنيات، لتجارب غير تاريخية، وحديث خُرافة، وتحويل المشهد إلى تناطح ‏أحجيات حمقاء عن تاريخ أجوف، والحكواتي لا يملك تجويد السردية، فيدخل ويخرج ‏في الخطاب، وتفضحهم ثقافتهم المُرقّعة البسيطة، ولكن ميزة عصر التّفاهة الكبرى، ‏هو إتلاف مؤشّر الجودة، ولا شيء يعلو اليوم على التّفاهة، هل هي ذاكرة الإنسان أم ‏ذاكرة السّلوقية؟

لا شيء هنا يحيل على غير العُصاب، لا قطاع يخلو من البارانويا، لا سردية تتمتع ‏بنقاء الخطاب، هناك خطاب يستدعي الطّب النفسي، علاج الإفراط في تمثّل جري ‏السلوقية في المجال العمومي، إنّ ذاكرة العُصابي عنيدة في الانزياح لكن الخيال ‏يخونها، ويضع في ممشاها ألغاماً من متفجّرات المغالطة، حقل ملغوم بالتناقضات ‏والغباء، فالذاكرة مريضة، والحكواتي مُهرِّج وليس مؤرّخاً، تختلط الأزمنة والأمكنة ‏وما تبقى من رأس أحمق.‏

تحيلنا ظاهرة الاستذكار الزّائف إلى تدهور مهام المثقف، بل واستقالة المؤرّخ، وتسيّب ‏المجال، ورداءة المحتوى، لكن المؤرّخ الحقيقي يظلّ حاضراً وناظراً في سائر ‏الأوهام، وهو يتربّص باللحظة التي تلي استفراغ الحكواتي أوهامه، وهنا فقط تكون ‏الرّوية ضرورة ولها أهمية في استدراج نشّالي الذّاكرة من سوق «الإيه»، فهم ‏يساعدون على تقويم الذّاكرة وقراءة التراث على أصوله، وإعادة السلوقية إلى بيت ‏الكلب(‏Dog House‏).‏

كاتب من المغرب العربي

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار