ملف لجوء مزدوج سوري- لبناني على طاولة المؤسسات والمجتمع..مشهد مأزوم يوجب رفع العقوبات واستبدالها بالدعم العاجل لتمكين الدولة السورية
تشرين- مها سلطان:
بين ذهاب وإياب- طوعي أم قسري، لا فرق- يستمر ملف اللاجئين السوريين رهن الحسابات السياسية، إقليمياً ودولياً، وبما يجعله ينسلخ كلياً عن كونه ملفاً إنسانياً بخطوط واضحة معروفة للجميع.
منذ بدء الحرب الإرهابية على سورية مطلع عام 2011، لم يغادر هذا الملف ساحة الضغوط التي تمارس على الدولة السورية، بل كان حاضراً في كل اجتماع دولي- أممي، وفي كل لقاء، وفي حقيبة كل وسيط ومبعوث ومسؤول زار دمشق طوال السنوات الـ14 الماضية. ليس هذا فقط، بل إن دول النزوح نفسها استغلت واستثمرت في هذا الملف لاستجرار الأموال، وضمان تدفقها، من دون أن تكف عن الشكوى والتذمر مما تسميه عبء اللاجئين السوريين، علماً أن الاستغلال انسحب حتى على مستوى العلاقات مع الدولة السورية، وبما يتسق، طوعاً أم قسراً، لا فرق، مع حملة الضغوط الدولية، ليكون ملف اللجوء جبهة حرب إرهابية أخرى تفتح على سورية وشعبها.
لم يكن خافياً الفيتو الأميركي على عودة اللاجئين وهو الذي أصبح فاضحاً خلال الأعوام الأخيرة حيث بات الغرب يجاهر برفضه عودة اللاجئين من دون تحقيق مكاسب لمصلحته في الميدان والسياسة
لم يكن خافياً، الفيتو الغربي (الأميركي أساساً) على عودة اللاجئين، رغم كل الدعوات التي وجهتها الدولة السورية لهم ليعودوا.. هذا الفيتو أصبح فاضحاً خلال الأعوام الخمسة الأخيرة، حيث بات الغرب يجاهر برفضه عودة اللاجئين من دون تحقيق مكاسب لمصلحته في الميدان والسياسة.. دول النزوح نفسها تعلن ذلك، وتتحدث عن الضغوط الغربية عليها لإبقاء اللاجئين السوريين.
لكن هذه الحال تغيرت اليوم، وكسر العدوان الإسرائيلي على لبنان إحدى حلقات الفيتو الأميركي.. فاللاجئون السوريون (ومعهم النازحون اللبنانيون) يتدفقون بعشرات الآلاف إلى سورية، والدولة السورية فتحت لهم الأبواب والتسهيلات المعيشية وفق خريطة الإمكانيات التي أفرزتها الحرب والعقوبات الغربية الجائرة التي طالت حتى قطاع المستشفيات والأدوية.
التجاهل المشبوه
الدولة السورية استعدت لأيام قبل بدء العدوان الإسرائيلي على لبنان، إذ لم يكن خافياً أن العدوان سيقوم بين يوم وآخر، وأنه سيقود إلى أزمة لجوء مزدوج سوري ولبناني.. وتالياً سيكون العبء مضاعفاً.
ولأن الشبهات تطغى، ومسار استهداف سورية، دولة وشعباً ومؤسسات، مستمر، لم يتم التركيز على المسؤولية الدولية في مساعدة اللاجئين السوريين (ومعهم اللبنانيون) بما فيها المنظمات الإنسانية الدولية.. المشبوهون المعروفون لنا وللجميع ابتلعوا ألسنتهم، وصمّوا آذانهم، وعصبوا عيونهم عن كل ما قدمته الدولة السورية، وكل ما قدمته العائلات السورية التي استضافت اللاجئين في منازلها، أو وفرت لهم منازل بلا مقابل مادي. يكفي جولة سريعة على عدد من المحافظات والمدن السورية لرؤية أوضاع اللاجئين وما تبذله الدولة من جهود كبيرة جداً في سبيل تخفيف واحتواء متطلباتهم المعيشية.
لم يخرج أحد من هؤلاء المشبوهين، وبعضهم دول، ليطالب أميركا والغرب، والمنظمات الدولية مدّ يد العون للاجئين، وصرف الأموال لهم، وتأمين سقف يحميهم… وقبل ذلك حمايتهم من القصف الإسرائيلي وتأمين مراكز إيواء أو ممرات عبور آمنة لهم.
العدوان الإسرائيلي على لبنان كسر إحدى حلقات الفيتو الأميركي على عودة اللاجئين ليتدفقوا بمئات الآلاف في رحلة عودة سبق واستعدت لها الدولة السورية وفق خريطة الإمكانيات التي أفرزتها الحرب والعقوبات الغربية
لم يذكّر ولم يطالب أحد منهم أميركا – وهي التي كانت حتى الأمس القريب ترفع راية التباكي على اللاجئين السوريين وتحشد خلفها مجتمعاً دولياً كاملاً ليشاركها التباكي.. لم يطالبها هؤلاء بما عليها من واجب مساعدة اللاجئين ما دامت منعت لسنين طويلة عودتهم إلى ديارهم، وتمكينهم من استعادة حياتهم الطبيعية.
الحرب والعقوبات
اليوم لا نسمع صوتاً واحداً في الغرب يتحدث عن اللاجئين السوريين وعن مسؤولية الكيان الإسرائيلي، كما لا نسمع منهم صوت مساعدات ولا مطالبات بمساعدات، ولا من يتحدث عن فاتورة لجوء مضاعف ستدفعها الدولة السورية، وستدفعها أيضاً العائلات السورية من حصتها المعيشية، وهي التي تعاني من حرب العقوبات الأميركية- الغربية، فصولاً متتالية.
لماذا لا نسمع صوتاً يطالب بإنهاء حرب العقوبات الغربية على سورية، وبما يُعينها على تحمل تكاليف وأعباء مئات آلاف اللاجئين السوريين والنازحين اللبنانيين؟.. فإذا كان المجتمع الدولي سيتخلى عنهم (وهو بالأساس لم يكن معهم بدليل أقسى ظروف الحياة التي كانوا يعانونها)، إذا كان سيتخلى عنهم فليسمح للدولة السورية بمساعدتهم كما يجب، وليحرر اقتصادها من حرب العقوبات لتستطيع رعاية كل مواطنيها، ليسمح لها بتحرير أراضيها من الإرهابيين والمحتلين، أليس معظم هؤلاء اللاجئين ينتمون إلى مدن وبلدات يحتلها إرهابيون يعملون إما في خدمة المحتل الأميركي، وإما في خدمة المحتل التركي؟
لماذا لا نسمع صوتاً منصفاً يتحدث عما فعلته الدولة السورية وما أصدرته من مراسيم وقوانين، وما أطلقته من دعوات لعودة اللاجئين (إلا من يشكل خطراً أمنياً وهذا من حقها)؟.. ما صدر من مراسيم عفو رئاسية كان كافياً لطمأنة من يزعم خشيته العودة خوفاً من الاعتقال والحبس، وكان كافياً لإسكات من يزعم أن الدولة السورية لا تقوم بواجباتها لتأمين حياة اللاجئين وحقوقهم، ولكن لنعكس السؤال: هل هؤلاء اللاجئون بجميعهم يقومون بما عليهم من واجبات تجاه الدولة وأمنها واستقرارها؟.. أليست المواطنة تستدعي أن على كل مواطن واجبات كما له حقوق، وأن كلاً منهما يستدعي الآخر، ولا يستقيم من دونه، ولا تستقيم الدولة من دون مواطنين يعرفون واجباتهم بالمستوى نفسه الذي يطالبون فيه بحقوقهم، علماً أن الجانبين لا يستويان إذا ما أخذنا أن مستوى الواجبات والتخلي عنها أو الإخلال بأحد جوانبها يستدعي مخاطر وعواقب على الصعد، دولة وأفراداً.
بيننا وبينهم
على مدى عقود طويلة، استقبلت الدولة السورية والسوريون، لاجئين من كل الدول العربية، وتقاسمت معهم اللقمة ورغيف الخبز، أنزلتهم كل منزل كريم يحفظ إنسانيتهم ويقيهم عوز السؤال والحاجة. بالمقابل لم تكن هناك معاملة بالمثل من دول النزوح (مع استنثاءات قليلة). تُرك اللاجئون السوريون في العراء، على الحدود، وفي أحسن الحالات في خيم يقتاتون على فتات المساعدات الدولية، بينما المساعدات الكبرى تذهب باتجاهات معروفة للجميع، علماً أنه كان من بينهم من تدفع له بعض دول النزوح مقابل عمليات إرهاب وتخريب، وعندما نزح إليها تخلت عنه.
الدولة السورية تتحمل اليوم أزمة لجوء مزدوج سوري- لبناني وبما يضاعف الأعباء والتكاليف بصورة قياسية تتجاوز الإمكانيات فأين المجتمع الدولي منها؟
ألم تكن دول النزوح والدول الغربية مسؤولة بشكل مباشر عن تعميق مأساة اللاجئين السوريين ودوامها، سواء لناحية رضوخها للفيتو الأميركي، وسواء لناحية الصمت أمام إغراءات الأموال المقدمة في إطار مساعدة الدول على تحمل أعباء اللاجئين؟
لماذا في كل ما يقوله المشبوهون حول اللاجئين السوريين في رحلة الإياب، يتم تجاهل العدوان الإسرائيلي على لبنان، ويتم التعامل معهم باعتبارهم «لاجئين بين حربين» في مساواة جائرة؟ ولماذا لا يتم تناول مسؤولية دول النزوح في حماية من يفترض أنهم تحت رعايتها، وهي التي كانت توقر آذاننا ليل نهار بحقوقهم الإنسانية، وعندما فتحت لهم الدولة السورية أبوابها للعودة بدؤوا يبحثون عن كل ثغرة ممكنة للتشكيك بما تقوم به.
«الأم يلي بتلم»
الدولة السورية لم تتخلَ يوماً عن مواطنيها، ولم يسجل تاريخها في أي محطة مثل هذا التخلي، بل دائماً كانت كما يقول السوريون «الأم يلي بتلم» أبناءها وأبناء غيرها، ولن تكون إلا كذلك. وللخائفين على حياة اللاجئين السوريين ليتفضلوا ويعلو صوتهم في سبيل إنهاء معاناتهم، ومطالبة الغرب بإفساح المجال أمام تمكين الدولة السورية بما يمسح لها أداء واجباتها كاملة لكل مواطنيها.. وبما يخرج هذا الملف من دائرة الاستغلال السياسي والمخططات المبيتة لسورية وأهلها.